المميز

الإسلام و الجزية، تاريخ من الخزي و العار – الجزء الثاني

في الجزء الأول من هذا المقال كنا قد بينا التأصيل الشرعي لمسألة الجزية و سبب نزولها في القرآن، و بينا الملابسات السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية التي أدت إلى إضافة هذا الحكم الشرعي لبقية أحكام الإسلام في دولة محمد الناشئة و الضعيفة، و التي كانت في أمس الحاجة للموارد الإقتصادية.

رابط المقال : الجزية و بشرية القرآن (الجزء الأول)

في هذا الجزء سوف نتعرض لبعض النفاصيل الخاصة بالتطبيق العملي لفقه الجزية إبان الغزو الإسلامي العربي لبلدان الشرق الأوسط و شمال إفريقيا.

عند البحث في تاريخ الجزية، أول ما تجده أمام عينيك في كتب التاريخ لدينا، هو تلك المقارنة السمجة مع الحضارات السابقة، فالغالبية العظمى من المؤرخين المسلمين و العرب ينزعون نحو الحديث عن كون الجزية كتطبيق عملي ناتج عن الغزو و الحروب ليست من محدثات الإسلام، بل قديمة جدا و ترجع إلى أولى الحضارات التي دون الناريخ تفاصيلها، فقد فرضها الرومان على كافة مستعمراتهم بدون إستثناء بداية من غرب أوروبا و وصولا للشام، و فرضها الفرس على الفينيقيين، و اليونان على سكان سواحل آسيا الصغرى، و هذه المقارنة في حد ذاتها هي تعبير واضح عن إحساس ضمني بالخجل و الخزي من ممارسة بعيدة كل البعد عن المفاهيم الإلهية و الدينية المنزهة عن تصرفات البشر التي تهتم بمصلحتها الآنية أولا، غير أن أصل تنزيل الحكم و وروده في القرآن و تطبيق النبي له مباشرة بعد نزول الآية 29 من سورة التوبة، في غزوة تبوك، يحيلنا على حاجة بشرية ضرورية أولا، و لم تنزل الآية في القرآن إلا كتعبير مباشر عن هاته الحاجة و تشريع إلهي للممارسة كفعل حلال و مشروع يأمر به الله أتباعه من المسلمين. (أنظر المقال السابق).

 

الآية 29 من سورة التوبة, القانون المشرع و المنظم لمفهوم الجزية
الآية 29 من سورة التوبة, القانون المشرع و المنظم لمفهوم الجزية

 

و رغم كوننا نستنكر هاته المقارنة لكونها تضع الله في موضع البشر، لكن لا أحد ممن درسوا التاريخ يستطيع إنكار كون الممارسة ضاربة في التاريخ بشدة، فهي قديمة بقدم البشر، و بقدم أواى الغزوات التي قامت بها جماعات من البشر ضد القرى أو المستوطنات أو المدن الأولى التي عرفت إستقرارا جغرافيا نتج عنه إستقرار إقتصادي و توافر للموارد الطبيعية الضرورية (فلاحة، ماء، مراعي، قطعان حيوانات أليفة، خطوط تجارة أو محطات توقف القوافل)، و بهذا لم يخل التاريخ القديم من حضارة بشرية واحدة لم تلجأ للجزية كمدخول إقتصادي ثابت و وفير يستتبع كل التحركات العسكرية من غزو و إستعمار، و بنفس المنطق البشري الخالص لم تحد الدولة الإسلامية الوليدة عن هاته القاعدة الثابتة، فهي دولة ضعيفة بالمفهوم العسكري و محدودة جغرافيا، و تحتاج لتوفير موارد إقتصادية ثابتة و دائمة لإعاشة أتباعها، و الغزو (ما يسمى بالفتح في الأدبيات الإسلامية) كان هو الوسيلة المتوفرة آنذاك، أما الحكم الوارد في القرآن بخصوص الجزية، فهو ليس إلا تعبيرا “إلهيا” عن حاجة بشرية خالصة، تعبر عن الإنتهازية أكثر مما تعبر عن إرادة الله في خلقه.

على المستوى الفقهي كانت أحكام الجزية مثار خلاف دائم بين الفقهاء و الشيوخ، خاصة في ما يخص مقدارها و طريقة تأديتها، فالقرآن لم ينص على مقدار ثابت لها، لكن النبي محمد حدَّد ما يجب في المال من الزكاة، أما الجزية، فقد ذكر أنه قد أمر معاذًا أن يأخذ من كل حالِم دينارًا أو عدْله من المَعافر، وأخذ عمر بن الخطاب أكثر من ذلك في بعض الأحيان؛ حيث يروي أبو عبيد أنه قد فرض على أهلِ الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهمًا، ومع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافتهم ثلاثة أيام عنوة، و قد كانت جزية أهل الشام أكثر من جزية أهل اليمن في عهد عمر بن الخطاب فالنبي قد أوصى بأهل اليمن قبل وفاته لم يوصي بأهل الشام. و قد فرض عمر على بني تغلب ضعْف الزكاة عندما أنِفوا من الجزية، و هذا الاختلاف في فرْض الجزية في عهد عمر بن الخطاب جعل الفقهاء يختلفون فيما بعد في تحديد مقدارها :

– المالكية: يرون أن الجزية غير مقدَّرة بحد أدنى أو أقصى، ويقدِّرها الأئمة تبعا للوضع الإقتصادي و الإجتماعي لسكان البلاد التي تم “فتحها” غزوها.
– والحنفية: يرون أنها على ثلاث فئات: الأغنياء ثمانية وأربعين درهمًا، و متوسطوا الحالة يدفعون أربعة وعشرين درهمًا، والفقراء يدفعون اثني عشر درهمًا، ولا يُزاد على ذلك ولا يُنقص، بينما صير أغلب دعاة تجديد “تدليس” الخطاب الديني أنها قد سقطت عن الفقراء بأمر النبي محمد، لكن واقع الأمر يؤكد عكس ذلك كما سنرى في التفاصيل التاريخية الواردة عن طريقة جمع الجزية في البلدان التي تم غزوها.
-أما الشافعية: فيرون أن الجزية لا يجوز أن تقل غلى دينار على الغني والفقير، ويجوز للولاة أن يَزيدوها مِثلما فعل عمر.
– أما الحنابلة: فيَروون عنهم الآراء الثلاثة السابقة، و هم أقرب لرأي المالكية، لكنهم يصرون على الأداء في وضع الذلة و الصغار تطبيقا للآية 29 من سورة التوبة.

و من أحكام الجزية كما قال أحمد بن إدريس (القرافي) في كتاب الفروق : ” إن قاعدة الجزية من باب التزام المفسدة الدنيا لدفع المفسدة العليا وتوفّع المصلحة، وذلك هو شأن القواعد الشّرعيّة، بيانه: أن الكافر إذا قتل انسدّ عليه باب الإيمان، وباب مقام سعادة الإيمان، وتحتم عليه الكفر والخلود في النار، وغضب الدّيّان، فشرع اللّه الجزية رجاء أن يسلم في مستقبل الأزمان، لا سيما باطّلاعه على محاسن الإسلام، و الإلحاح إليه بالذل والصغار في أخذ الجزية “.

 

النص القرآني يؤكد على أن دفع الجزية يجب أن يتم على حالة من الذلة و الصغار.
النص القرآني يؤكد على أن دفع الجزية يجب أن يتم على حالة من الذلة و الصغار.

 

و يحق لي أن أتساءل هنا، كيف لمن يتعرض للغزو و يفرض عليه إستعمار و إستيطان من شعب آخر بقوة السلاح و يفرض عليه أداء أتاوة مالية مدى الحياة لمستعمره مشروطة بالدفع على الذلة و الصغار، أن يحصل لديه إيمان أو إعتقاد صحيح بالدين أو أحكامه أو الأخلاق و القيم و المعاملات التي يدعو إليها، أو حتى يثق بكونه دينا حقا منزلا من عند الله الحق خالق كل شيء و العالم بكل شيء، بينما هذا الإله يشرع لمستعمره أن يحتل أرضه و يتملك امواله و يسيطر على موارده و يأخذ ماله بسلطة دينية لا جدال و لا نقاش معها، و إن إعنرض على الأمر خرج من عهد الذمة و أصبح ماله و عرضه و دمه و كل ما يملكه حلال لهذا المستعمر الغائر عليه من قلب صحراء الجزيرة … ؟؟!!!!

لا يتحمل هذا المشهد و لو ذرة واحدة من القداسة أو الألوهية التي يتخيلها المسلمون اليوم، بل هو في حقيقته مصدر للخزي و الخجل و العار في حق أمة تدعي كونها خير أمة أخرجت للناس، بينما أول ما عرف البشر من دعوتها للدين الجديد هو حد السيف و سرقة الأموال و نهب الممتلكات و سبي النساء و الأطفال، و كل ذلك بأمر إلهي، فالجزية في الإسلام ليست هي تلك التي تدفعها الدول المنهزمة للدول المنتصرة في حالات الغزو و الحرب و المواجهات العسكرية، فنحن هنا أمام تشريع ديني محض، يكون فيه دفع المال مفروضا لقاء حق الإحتفاظ بحرية المعتقد و الدين، فأين التسامح الإسلامي الذي صدعوا به رؤوسنا هنا … ؟؟!!!

و في تفسير القرطبي للآية 29 من سورة التوبة يقول : “وَ قَالَ اِبْن الْجَهْم : تُقْبَل الْجِزْيَة مِنْ كُلّ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الْإِسْلَام ….. فَقَالَ عُلَمَاء الْمَالِكِيَّة : وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْل بِسَبَبِ الْكُفْر. وَقَالَ الشَّافِعِيّ : وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الدَّم وَسُكْنَى الدَّار. وَفَائِدَة الْخِلَاف أَنَّا إِذَا قُلْنَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْل فَأَسْلَمَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجِزْيَة لِمَا مَضَى”، فأما أنها لقاء حماية أهل الكتاب و الدفاع عنهم، فلا أدري عن أي دفاع يتحدث، و هم قوم مسالمون يعيشون في بلدانهم و لم يعتدوا على المسلمين في شيء، و لولا حكم جهاد الطلب الذي نعرفه جميعا لما إلتقى هؤلاء بهؤلاء، و التهديد بالوقوع تحت السيف و سلب المال و نهب الأرض و سبي الذرية قد جاء من أصحاب الدعوة للدين الجديد في شكل جديد من أشكال التبشير الديني لم يكن العالم يعرفه من قبل لا في المسيحية و لا في اليهودية و لا حتى في ما سبقها من الديانات الوثنية الأخرى.

 

4 دنانير ذهبية عن كل شخص بالغ.
4 دنانير ذهبية عن كل شخص بالغ.

 

و يقول إبن سعد في كتابه الطبقات الكبرى عن عمرو بن العاص عند غزو مصر : “وضع الجزية علي جماجم أهل الذمة فيما فتح من البلدان..”، أما إبن القيم فقدِ سماها «خراج رؤوس الكفار» فيقول :”الْجِزْيَةُ هِيَ الْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَى رُءُوسِ الْكُفَّارِ إذْلَالًا وَصِغَارًا”. و مما يرويه المقريزى في كتابه المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار :” قدم صاحب أخنا على عمرو بن العاص رضي اللّه عنه فقال له: أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فنصير لها. فقال عمرو و هو يشير إلى ركن كنيسة : لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك ما عليك إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم “، و حتى عندما إقترح عمرو بن العاص على عمر بن الخطاب أن يقوم بغزو مصر، لم يكن ذلك بعدف نشر الإسلام و إنما بقوله : ” يا أمير المؤمنين . إئذن لى أنْ أسير إلى مصر. هى أكثر الأرض أموالا. وأعجزها عن القتال والحرب “، فالهدف واضح و بين هنا، فالغزو قد كان بدافع الحثول على المال و الموارد التي تنقص الدولة الفتية، و لعلم عمرو بن العاص حينها بأن أهل مصر ليسوا بأصحاب حرب و لا قتال، فهم واقعون تحت الإحتلال البيزنطي لقرون، و أكثر الناس خضوعا له، منا يسهل عملية غزوهم و إستعمار بلادهم، و نحن هنا بعيدون تماما عن تلك الصورة المغرقة في النبل التي تكتنف صفحات كنب التاريخ الإسلامي عندما يتحدث عما يسمونه “بالفتوحات الإسلامية”، فتلك الفتوحات لم تكن إلا إستكمالا لممارسات عرف بها عرب الجزيرة فيما بينهم قبل قرون من مجيء الإسلام، هذا الدين الجديد الذي أبقى على تلك العادات و لم يقف عند ذلك الحد بل شرعها بأوامر إلهية واضحة في القرآن و رغب فيها أتباعه.

بل إن عمرو بن العاص قد تمادى في أحكامه الجائرة على أقباط مصر و التي أقره عليه الخليفة عمر بن الخطاب و لم يأمره بتركها، ففرض على أهل مصر أن يستضيفوا كل عربي يدخل مدنهم و قراهم وسط بيوتهم و عائلاتهم مدة ثلاثة أيام دون أدنى سؤال أو إعتراض، و زاد عن ذلك بأن أقر ملكية كل عربي لأي بيت يضرب رمحه وسطه حتى لو كان له أصحاب ” من ركز رمحه فى دار فهى له ولبنى أبيه”، فهؤلاء كفار و مشركون بحكم إلهي، و معترضون على الدين الحق الذي جاءهم ذكره في التوراة و الإنجيل من قبل، و ما يقع عليهم من الذلة و الصغار و المهانة هو جزاء الله على جحودهم لهذا الدين الذي جاء به رسوله. و سوف تذكر كتب التاريخ أبد الدهر تلك الجملة المخزية التي نادى بها عمرو بن العاص في أقباط مصر بعد قدر عليهم و إستسلموا لحكمه، حيث قال : ” من كتمنى كنزًا عنده فقدرت عليه قتلته “، و يحكى حينها أن كافة أعل مصر قد أخرجوا ما لديهم من ذهب و فضة و أموال خوفا من تهديده الصريح لهم بالقتل، و تهديد عمرو بن العاص رغم فظاظته لا يخرج عن سنة النبي محمد فيما سبق، فقد ورد في سيرة إبن هشام عن إبن إسحاق في حرب يهود بني النضير : ” و أتى رسول الله بكنانة بن الربيع وكان عنده كنز بني النضير فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه فأتى رسول الله رجل من يهود فقال لرسول الله : إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة فقال رسول الله لكنانة أرأيت إن وجدناه عندك ، أأقتلك قال نعم. فأمر رسول الله بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم ثم سأله عما بقي فأبى أن يؤديه فأمر به رسول الله الزبير بن العوام ، فقال عذبه حتى تستأصل ما عنده فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه – أي عذبه بالنار حتى أشرف على الموت- ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة “. فالفعل هنا ثابت في السيرة النبوية و لم يفعل أكثر من تطبيق سنة نبيه فيما سبق.

و في عام المجاعة بعث عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص كتابا يقول فيه : ” إلى العاص بن العاص . فإنك لعمرى لا تبالى إذا سمنتَ أنت ومن معك أنْ أعجف أنا ومن قبلى . فياغوثاه ياغوثاه . فكتب إليه عمرو بأنه سيرسل له قافلة من العير أولها عندك وآخرها عندى “، فمصر إذن ليست إلا خزينة لعرب الجزيرة و دولتهم الجديدة، يأخذون منها ما أرادو متى أرادوا و بتشريع إلعي سماوس لا يملك مسلم واحد أن يناقشه اليوم، فالحكم ثابت في القرآن بالنص الواضح و بإجماع أئمة المذاهب الأربعة.

و جدير بالذكر أن الجزية قد بقيت مضروبة على نصارى و أقباط مصر منذ الغزو الإسلامي إلى عام 1855 حين قام الوالي سعيد إبن محمد علي بإصدار مرسوم إلغاء تام لها مع كل الشروط التي ترافقها مثل منع الأقباط من دخول الجيش و إنشاء مدارس و كليات خاصة بهم، بل سمح لهم حتى بممارسة طقوسهم الدينية داخل الجيش بكل حرية، منهيا بذلك تاريخا طويلا من العنصرية و القهر و الظلم في حق أقلية دينية تعتبر هي أصلا صاحبة الأرض، و لا يفوتني أن أذكر هنا أن مرسوم الإلغاء هذا قد أثرا مشكلة كبيرة مع شيوخ الأزهر و فقهاءه، إذ أن رواتبهم كانت تدفع من الجزية التي تتم جبايتها من الأقباط كل سنة. و قد قامت باقي الولايات العثمانية بإصدار مراسيم إلغاء مشابهة بدءا من عام 1857.

و لنترك مصر جانبا و نتجه شمالا صوب بلاد الشام، لنتحدث قليلا عما يسمى بالعهدة العمرية و هي كتاب عمر ابن الخطاب لأهل إيلياء ” القدس” بعد “فتحها عام 638 ميلادية.

نص العهدة العمرية عن كتاب “أحكام أهل الذمة” لإبن القيم الجوزية
عن عبد الرحمن بن غنم :

كتبتُ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام، وشرَط عليهم فيه :

الا يُحدِثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب،
ولا يجدِّدوا ما خُرِّب،
ولا يمنعوا كنائسهم من أن ينزلها أحدٌ من المسلمين ثلاث ليالٍ يطعمونهم،
ولا يؤووا جاسوساً،
ولا يكتموا غشاً للمسلمين،
ولا يعلّموا أولادهم القرآن،
ولا يُظهِروا شِركاً،
ولا يمنعوا ذوي قرابتهم من الإسلام إن أرادوا،
وأن يوقّروا المسلمين،
وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس،
ولا يتشبّهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم،
ولا يتكنّوا بكناهم،
ولا يركبوا سرجاً،
ولا يتقلّدوا سيفاً،
ولا يبيعوا الخمور،
وأن يجُزُّوا مقادم رؤوسهم،
وأن يلزموا زيَّهم حيثما كانوا،
وأن يشدّوا الزنانير على أوساطهم،
ولا يُظهِروا صليباً ولا شيئاً من كتبهم في شيءٍ من طرق المسلمين،
ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم،
ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفيفاً،
ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين،
ولا يخرجوا شعانين،
ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم،
ولا يَظهِروا النيران معهم،
ولا يشتروا من الرقيق ما جَرَتْ عليه سهام المسلمين،
فإن خالفوا شيئاً مما شرطوه فلا ذمّة لهم،
وقد حلّ للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق، ”

و فوق كل ما سبق ذكره فقد فرض عمر على أهل القدس أداء الجزية، و لكم أن تتخيلوا من كمية الشروط و القيود التي فرضت على مسيحيي القدس قدر الإجحاف و الظلم الذي وقع عليهم، فهذه الوثيقة هي ترجمة لإرادة مستعمر قام بغزو بلد بقوة السلاح و سيطر على شعبها و مقدراتها و فرض نظاما سياسيا و إجتماعيا و إقتصاديا و دينيا يستحوذ فيه على كل شيء و يفرض به دينه بالقوة على الشعب الواقع تحت سلطته الغاشمة، و من يرفض فعليه أن يؤدي إتاوة لقاء الإحتفاظ بحياته و بحقه في الإعتقاد بالدين الذي يريده، و بجانب ذلك يصبح مجبرا على العيش على الهامش تماما مقصيا من كل أشكال الحياة العامة بما فيها من أنشطة طبيعية قد يمارسها أي شخص بمنتهى الحرية، مثل حرية العبادة و ممارسة الطقوس الدينية و بناء دور العبادة، بل هو مجبر على تمييز نفسه عن المسلمين بحلاقة شعر محددة و لباس معين و عليه أن يخلي الطريق للمسلم عند مروره و ينهض له من مكانه لكي يجلس فيه، كما أنه ممنوع من حمل السلاح أو ركوب الخيل، أو حتى الظهور بعلامات مميزة لإعتقاده الديني، و لا يحق له منع أي مسلم من دخول الكنيسة بل يجبر على إستضافته داخلها لثلاثة أيام أكلا و شربا و مبيتا، و هذا غيض من فيض. إذا لم يكن كل ما ذكر أعلاه قمة العنصرية و التطرف و الإقصاء فماذا يكون، و كأني أقرأ مرسوم القوات الألمانية النازية الذي فرضته على يهود بولونيا حين غزت البلد و سيطرت عليه لأكثر من خمس سنوات إبان الحرب العالمية الثانية … !!!

تاريخ الجزية كحكم ديني مؤكد بنص من القرآن و كممارسة سياسية و إقتصادية و دينية مجحفة يمثل إحدى أكثر مظاهر التطرف و العنصرية الإسلامية إثارة للعار و الخزي، و مهما إدعى الشيوخ و رجال الدين اليوم من الكذب و التدليس حول كونها مماثلة لفريضة الزكاة أو تعويضا عن الدفاع عن أهل الكتاب في حالة الحرب هو محض إفتراء كبير، و لعل ابرز دليل على ذلك هو كون عصابات داعش و جبهة النصرة في العراق و سوريا لم تتردد لجظة واحدة في تطبيق هذا الحكم على من وقع تحت أيديها من الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط، فهم بذلك يطبقون حكما إلهيا لا شبهة في صحته و لا مشروعيته.

مهدي بوعبيد

14/09/2018

المميز

الأديان الإبراهيمية : التوحيد تعبير عن طموح سياسي و ليس رغبة إلهية

بالنسبة للأديان الإبراهيمية الثلاث، لا يمكن فصل الإرتباط الضمني بينها و بين القوميات التي نشأت فيها أو الإمبراطوريات التي أنشأتها، كما لا يمكن التعطي معها بمعزل عن السياق التاريخي و المعرفي و السياسي و الإقتصادي الذي ظهرت فيه، فالحاجة للتخلي عن تعدد الآلهة الوثنية و تعويضها بإله واحد يجتمع تحته الكل و يستسلمون لإرادته، هي حاجة سياسية و قومية أولا، و هي جزء أساسي من عملية تجديد المعرفة البشرية المتوفرة في مرحلة تاريخية معينة، قبل أن تكون فعلا إلهيا خالصا.
في حالة اليهودية مثلا، كان التحول من الإله بعل الكنعاني الذي عبدته قبائل يهوذا و السامرة المشتتة في أرض كنعان، إلى الإله يهوه YHWH المتفرد وسط باقي مجمع الآلهة المعروف حينها في منطقة الشرق الاوسط، و الذي كان خليطا بين آلهة بابل و سومر و آكاد و مصر القديمة، و هي كلها حضارات تميزت بوجود سلطة سياسية مركزية، تفرض إرادتها في إطار علاقة تكامل تام بين الحاكم و الآلهة التي يتحدر من نسلها حسب الأساطير و الملاحم و المرويات التراثية لشعوب تلك المنطقة، و عندما أعلن يهوه عن نفسه لهذه القبائل عبر الأنبياء، كان هذا التجلي عبارة عن دعوة مرحلية لتوحيد هاته القبائل في قومية واحدة تجتمع كلها بالخضوع و تتحد خضوعا لإرادته, و من ثم قام هذا الإله المتفرد و الجديد بمكافأة هاته القبائل و الأجيال القادمة المنبثقة منها بمنحها أرض كنعان، أرض أنهار العسل و اللبن، حيث أمرهم ببناء أول منزل له و هو الهيكل القديم، و كأنها صفقة يجتمع فيها الطرفان بما يحقق مصلحتيهما بالدرجة الأولى، و أكثر ما يعبر عن كون اليهودية دعوة قومية أكثر منها دينية، هو كمية الغضب و السعار التي تميز بها الإله يهوه في نصوص العهد القديم، فهو إله غاضب دوما، و يهدد و يتوعد كل من يقترب من شعبه المختار بنصف كلمة، و لا يتردد في التعبير عن مستويات مرعبة من العنصرية التطرف تجاه باقي البشر، حين يعتبرهم أقل قيمة بل أقل بشرية من أبناءه، بني إسرائيل، وصولا لدرجة اعتبارهم هم و أسرهم و أولادهم و نسلهم من بعدهم، مجرد عبيد و خدم عند شعبه المختار، يزرعون أراضيهم و يحصدون زرعهم و يعصرون نبيذهم، و بذلك تشكل العهد الإلهي الأول بين بني إسرائيل و الإله المتفرد العنصري و الغاضب دوما ضد كل البشر بإستثناء شعبه المختار.
أيقونة قبطية تصور النبي - الملك داوود.
أيقونة قبطية تصور النبي – الملك داوود.
أما في حالة المسيحية، تلك الديانة التي اخترعها بولس الرسول، لأن عيسى المسيح لم يأت بدين جديد، بل برؤية جديدة للإله يهوه الذي خرج من ثوب القومية اليهودية، إلى الآب الذي يجتمع تحت إرادته كل البشر بغض النظر عن أصولهم الإثنية و القومية، نجد أنه لم تكتسب هذه المسيحية أي زخم إيماني حقيقي في العالم القديم، إلا بعد أن قرر الإمبراطور  الروماني قسطنطين اعتمادها كديانة رسمية لدولته، بعد أن حلم بالصليب نازلا من السماء قبل إحدى معاركه المهمة، و اعتبر هذا الحلم علامة من السماء على ضرورة إتباع المسيحية كدين رسمي لدولته، و يمكننا القول هنا أن دعوته لتشكيل مجمع نيقية Consul de Nicée عام 325 للميلاد، كانت وراءها إرادة سياسية فعلية لإختراع ديانة جديدة تتوحد تحتها كل الشعوب و القوميات الواقعة تحت حكم روما السياسي و العسكري، بغرض تثبيت مشروعية الإمبراطور الذي حلم بالصليب ليلة معركة عسكرية حاسمة، و لم يكن هدفه تحقيق إرادة الإله المتفرد على الأرض، بل تدعيم سلطته السياسية أولا، و توحيد القوميات المتنافرة داخل إمبراطوريته داخل تناغم ديني واحد يمثل إرادة سياسية رغم التباعد الجغرافي بين الشعوب الواقعة تحت سلطته، و لعل هذا هو السبب الرئيسي الذي جعل مجمع نيقية يعيد تشكيل شخصية عيسى المسيح من جديد، عبر إدخال تفاصيل مأخوذة من شخصيات الآلهة الوثنية القديمة التي عبدتها نفس الشعوب و القوميات الواقعة تحت الحكم الروماني مثل الإله الهندو-إيراني ميثراس، و الإله المصري القديم حورس، إذ أن شخصية المسيح حينها لم يكن لها نفس البعد الشبه أسطوري الذي نعرفه اليوم، و لأن الهدف هو توحيد الشعوب و القوميات تحت إرادة سياسية واحدة عبر الدين الجديد، كان من الضروري تقديم شخصية النبي المخلص بشكل يجعلها قريبة من الشخصيات الأسطورية و الدينية الوثنية المعروفة في العالم القديم.
لوحة حائطية من رسم الفنان الإيطالي RAFFAELLO في القرن السادس عشر الميلادي في ما يسمى بقاعة قسطنطين Sala di Constantino في مبنى الفاتيكان, اللوحة تصور حلم قسطنطين الذي رأى فيه الصليب نازلا من السماء.
لوحة حائطية من رسم الفنان الإيطالي RAFFAELLO في القرن السادس عشر الميلادي في ما يسمى بقاعة قسطنطين Sala di Constantino في مبنى الفاتيكان, اللوحة تصور حلم قسطنطين الذي رأى فيه الصليب نازلا من السماء.
إن ظهور المسيحية و تبلورها كدين توحيدي ليس إلا نتيجة منطقية للإمتداد السياسي و العسكري للإمبراطورية الرومانية، و ليس تحقيقا إعجازيا لإرادة إلهية، و حتى قبل العام 325 ميلادي، كانت الديانة الأكثر انتشارا في الإمبراطورية هي الميثرائية، حيث امتدت عبادة ميثرا من شب القارة الهندية شرقا، إلى حدود إلى ألمانيا في أقصى شمال أوروبا و وصولا لإسبانيا في أقصى الغرب، و لا زالت معابد الميثرايوم Mithraeum شاهدة على مدى إنتشار هذه الديانة في العالم القديم. و حتى إعادة تجميع و تصنيف الأناجيل بين 4 أناجيل رسمية معترف بها، و أناجيل أبوكريفية منحولة أو غير معترف بها تم تدمير و إحراق أغلبها و منع تداولها، هو تصرف يحطم أسطورة الوحي الإعجازي بين السماء و البشر، فلا شيء يؤكد سماوية الأديان الابراهيمية بشكل مطلق غير معجزة الوحي و حديث الله مع البشر سواء الأنبياء أو القديسين من بعدهم، و متى تحطم هذا الرابط الإعجازي المقدس تبعا لما تؤكده التفاصيل التاريخية و اللقى الأثرية و الأركيولوجية، تعود هاته الأديان لموقعها الحقيقي، و هو كونها مجرد معرفة بشرية تطورت عبر مراحل الوعي البشري، لتتحول من مجرد محاولة بدائية لتفسير العالم الغامض المجهول من حولنا، إلى أداة أساسية و ضرورية من أدوات السياسة و تسيير الإمبراطوريات و القوميات.
منحوتة تعود للحقبة الرومانية تمثل الولادة المعجزة للإله ميثرا من الصخرة، و قد عثر عليها شمال بريطانيا و توجد حاليا بمتحف نيوكاسل.
منحوتة تعود للحقبة الرومانية تمثل الولادة المعجزة للإله ميثرا من الصخرة، و قد عثر عليها شمال بريطانيا و توجد حاليا بمتحف نيوكاسل.
و لا يختلف المشهد في حالة الإسلام إلا في بعض التفاصيل البسيطة، فهذا الدين نفسه لم ينشأ من فراغ، بل هو مجرد تكملة لما جاءت به اليهودية و أخذته عنها المسيحية، ليكمل الإسلام الطريق في نفس السياق، مقدما نفسه على كونه الرسالة النهائية من السماء للبشرية كلها، أي أنها آخر محاولة من الله للحديث مع البشر لشرح إرادته و كيفية تنزيلها على الأرض، بينما مجمل أحكامه و تشريعاته هي في أصلها مجرد نقل حرفي و عشوائي من اليهودية، و منطقيا لا شيء يميز الإسلام عما سبقه بما يفسر ضرورة كونه آخر ما أنزل من السماء، بينما أغلب مفاهيمه و تشريعاته هي نقل حرفي من أول ديانة عرفها البشر.
و على الجانب السياسي و الإجتماعي لم تكن دعوة محمد بن عبد الله إلا ترجمة مباشرة لإرادة سياسية بتشكيل ملك كبير تتوحد خلفه القبائل العربية البدوية المشتتة بين نجد و الحجاز و اليمن و جنوب الشام و العراق، و هي إرادة حاول جد النبي محمد الرابع قصي بن كلاب تحقيقها على الأرض قبل ظهور الإسلام بقرنين من الزمن معتمدا على تحالفات عسكرية و اقتصادية و سياسية بين قبائل العرب و بين الإمبراطورية الرومانية و الفارسية، و ذلك عبر تأمين خطوط القوافل، و تكريس سيطرة قريش على الكعبة و الحج و ما يخرج و يدخل الجزيرة العربية من تجارة و موارد و سلع، و ذلك بحكم موقع مكة الجغرافي ، و قد حاول جده الأول عبد المطلب أيضا تحقيقها وسط قريش بعد ذلك، لكنه كان يفتقد الموارد المالية و الكاريزما السياسية الضرورية لفرض رؤيته على الملأ المكي.
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يلقي خطبة حجة الوداع
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يلقي خطبة حجة الوداع
و قد جاء في السيرة الحلبية، و سيرة ابن هشام، قول النبي محمد لملأ قريش المكي : ” أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم، هل تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب و تدين لكم بها العجم .. ؟؟!!”، فعندما يصدر عن محمد مثل هذا القول، فهو لا يعبر عن إرادة الله على الأرض، بل يفصح عن الهدف الحقيقي من وراء دعوته لدين جديد، إنه هدف سياسي و قومي أولا قبل أن يكون دينيا، فهو يتحرك وسط قبائل و تجمعات بشرية تفتقر إلى كيان سياسي يعبر عنها كقومية مستقلة، و تعيش تحت ولاءات متفرقة حسب موقعها الجغرافي، بين الإمبراطورية الفارسية و الرومانية، و هما دولتان قويتان حاربتا بعضهما البعض طيلة قرون طويلة، و هاته الحرب الطويلة جدا قد أنهكتهما عسكريا و سياسيا و ماليا، و بدأت سيطرتهما السياسية على قبائل جنوب العراق و جنوب الشام و نجد و الحجاز ترتخي و تنسحب شيئا فشيئا، مما شكل فراغا سياسيا متاحا تماما أمام من يريد أن يتحرك ليحتله و يفرض نفسه، و لم يكن ذلك ليتحقق دون دعوة دينية توحد الشتات القومي للقبائل تحت فكرة مقدسة واحدة، منبثقة من معجزة الوحي الإلهي الذي اختص به رجلا واحدا من وسط قبيلة تملك شأن العرب اقتصاديا و دينيا لكونها تسيطر على الكعبة، موطن آلهة العرب الوثنية المتعددة، و موسم الحج السنوي هو التطبيق الفعلي لهذا الملك المعنوي الطي لم يكن قد تم تكريسه سياسيا بعد، بالإضافة لإيلاف قريش و رحلتي الصيف و الشتاء للتجارة مع الشام و اليمن، (الذي ذكره محمد في القرآن كمعجزة إلهية اختص بها الله قبيلة قريش دونا عن باقي قبائل و بطون العرب)، و ما حديثه عن تملك شأن العرب و العجم عبر دعوته الدينية إلا تعبير واضح و جلي عن الإرادة السياسية المتخفية وراء هذا الدين الجديد.
و هو نفس ما يؤكده عتبة بن ربيعة لقريش حين التقى بمحمد و استوعب عمق و كنه دعوته فقال لهم : ” يا معشر قريش، أطيعوني و اجعلوها بي و خلو ما بين هذا الرجل و ما هو فيه، فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم و إن يظهر على العرب فملكه ملككم و عزه عزكم، و كنت أسعد الناس به ” و لسنا في حاجة لتفسير ما يقصده الرجل بجملته هذه، فمن الواضح أنه يتحدث عن أمر الملك و ليس الدين.
و تحضرني هنا قصة عجيبة في غزوة الخندق، حيث يقول إبن هشام في سيرته عن سيرة إبن إسحاق : ” وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت علي صخرة، ورسول الله ﷺ قريب مني، فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى.

قال: ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، قال: قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت، لمع تحت المعول وأنت تضرب؟

قال: «أوقد رأيت ذلك يا سلمان؟» قال: قلت: نعم.

قال: «أما الأولى فإن الله فتح علي باب اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح علي باب الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق».

منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يتلقى الوحي من جبريل في غار حراء.
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يتلقى الوحي من جبريل في غار حراء.
محمد في هذا السياق، يواجه غزوا عسكريا من الملأ المكي، يهدده بحصار طويل، و بتحالف ضخم بين القبائل و معىيهود المدينة بغرض القضاء على دعوته، و أصحابه في ضيق من الحال و ضنك و فقر و جوع نتيجة الحصار، بينما نراه يستغل حادثة بسيطة جدا خلال حفر الخندق لصد الغزو، ليحولها لنبوءة إلهية بفتح قصور الحيرة في العراق و مدائن كسرى في فارس و حواضر الروم في الشام، و تصرفه و حديثه هذا ينم عن ذكاء سياسي كبير جدا و كاريزما قوية جدا تظهر في وضع من الضعف و الهوان قد يؤثر على نفسية أصحابه و قومه، فيلجأ هو لدعمهم نفسيا بإثارة حلم ملك سياسي ممتد خارج حدود إمكانياتهم العسكرية و السياسية، و هو بذلك يستعمل الآلهة بشكل مغرق في البراغماتية إلى أقصى الحدود، تماما كما فعل إبراهيم و موسى و سليمان و داوود مع بني إسرائيل حين ربطوا بين الإله يهوه و القومية اليهودية الناشئة وسط قبائل بدوية تعيش حالة من الضآلة و هي شبه محاصرة وسط حضارات العالم القديم حينها (بابل و آكاد و آشور و مصر القديمة)، و كما فعل قسطنطين حين ادعى أنه قد حلم بصليب نازل من السماء و قد كتب عليه (بهذا تغلب).
كما يؤكد هذه الرؤية السياسية جد النبي محمد، عبد المطلب حين يقول عن أولاده و أحفاده مفاخرا بهم قريش : ” إذا أحب الله إنشاء دولة، خلق لها أمثال هؤلاء” و هذه جملة تحمل من التمني و الطموح السياسي الشيء الكثير، قبل حتى أن تبدأ دعوة محمد للدين الجديد، و لعل أكثر من فهم هذا الأمر و عبر عنه بوضوح، هو أبو سفيان، رأس بني أمية حين قال لعثمان بن عفان بعد توليه الخلافة بعد مقتل عمر بن الخطاب : ” لقد صارت إليك تميم و عدي ( من كبريات قبائل العرب) فأدرها كالكرة و اجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو الملك و لا أدري ما جنة و لا نار ” (المصدر : السيرة الحلبية)، و الرجل هنا يتحدث بصراحة عن رؤيته الحقيقية لدعوة محمد بتجرد و واقعية عميقة، بكونها إرادة ملك و سياسة أولا، و الجزء الغيبي أو الديني منها لا يهمه و لا يعترف به حتى، و هو ما تأكد فعليا على الأرض حين أحاط عثمان بن عفان نفسه ببني قومه من بني أمية ثم ولاهم كل شيء حتى إنتهى الأمر بتلك الفتنة التي نعرفها جميعا، كما تأكدت الرؤية نفسها فيما بعد بانتهاء مفهوم الخلافة و تعويضه بالملك الوراثي عبر إبنه معاوية بن أبي سفيان و هو الملك الذي تحول بعد ذلك لدولة حقيقية لم يتردد ملوكها و سادتها و قادة جيوشها في فرض سلطتها على القومية العربية الناشئة بالقوة العسكرية (موقعة الحرة و كربلاء و محاصرة الحجاج لابن الزبير في مكة).
كما رأينا فإن نشأة و ظهور الأديان التوحيدية لا يحمل من الإعجاز الإلهي إلا فكرة الوحي، أو حديث الله مع الأنبياء و القديسين، و هو إعجاز متجاوز اليوم تماما بحكم المنطق، خاصة إذا ما وضعت النصوص المقدسة تحت مجهر الفكر النقدي و التحليلي، بل حتى تحت مجهر الفلسفة (حيث يظهر الدين كمحاولة بدائية للتفلسف في مواجهة الطبيعة)، أما ما تبقى خارج الوحي، فهو ليس إلا حتمية سياسية ناتجة عن معطيات جغرافية و ديموغرافية و إقتصادية و معرفية منفصلة تماما عن السماء و من يسكنها، فحيث تتكون تجمعات بشرية تتقاسم نفس المجال الجغرافي و الثقافي و المعرفي، و نفس الموارد و الأنشطة الإقتصادية، يكون من المنطقي تماما أن تتشكل حولهم إرادة سياسية لتوحيد هاته التجمعات في كيان قومي واحد، يعبر عن طموحات هاته التجمعات في السيطرة الفعلية على هذا المجال الجغرافي و ما يحتويه من موارد و أنشطة و ثقافة و معرفة و تجاذبات، و يصبح التوحيد هنا بمثابة هروب من التفرقة الإجتماعية و السياسية التي تنتج عادة عن تعدد الآلهة الوثنية التي عبدها البشر منذ بداية العصر النيوليثي (حوالي 6000 – 7000 سنة قبل الميلاد)، حيث تعددت الآلهة بتعدد مكونات التجمعات البشرية البدائية، و بتعدد مكونات المجال الطبيعي و الجغرافي الذين تعيش فيه.
رسم لقطعة من جرة فخار وجدت بمنطقة كونتيلة عجرود بسيناء يبين تصورا للإله يهوه و زوجته عشيرة، القطعة موجودة حاليا بمتحف الأركيولوجيا بجامعة تل أبيب.
رسم لقطعة من جرة فخار وجدت بمنطقة كونتيلة عجرود بسيناء يبين تصورا للإله يهوه و زوجته عشيرة، القطعة موجودة حاليا بمتحف الأركيولوجيا بجامعة تل أبيب.
إن التوحيد بكونه إلغاء تاما و نهائيا لتنوع و تعدد الآلهة الوثنية، هو سعي محموم لاكتساب أدوات القوة و الإرادة السياسية و العسكرية عبر دمج مكونات المجتمعات البشرية في بوثقة واحدة، تتحرك داخل مجال موحد، بطموحات من يملكون زمام الأمور السياسية، بعيدا عن الآلهة و ما أوحت به لمن اصطفتهم من البشر، و لعل هذه النقطة بالذات هي ما يفسر كون معظم أنبياء بني إسرائيل قد كانوا ملوكا يسعون لتمكين حكمهم على شتات قبائل يهوذا و السامرة على أرض كنعان القديمة، و هو ما يفسر كون الديانة المسيحية قد انتظرت ما يناهز الأربعة قرون لتتشكل في صورتها الحالية، و لم يتحقق ذلك إلا  بإرادة الإمبراطور قسطنطين العظيم الذي رأى فيها أداة سياسية كفيلة بتقوية سلطته و حكمه، و هو يفسر كون الدولة الأموية كترجمة لظهور قومية جديدة في منطقة الشرق الأوسط قد بدأت بعد 41 سنة من هجرة محمد من مكة إلى المدينة، إن الأديان التوحيدية كلها ليست إلا نتاجا سياسيا طبيعيا تماما للبيئة التي ظهرت فيها، و لا دخل لرغبات و إرادة الآلهة في ظهورها.
مهدي بوعبيد
21/06/2018
المميز

محمد والبحث المحموم عن التحالفات السياسية … براغماتية نبي … !!!‎

عند محاولة دراسة و تحليل التاريخ الإسلامي المدون، تخرج بخلاصة أساسية مفادها أن مصداقية كل ما كتب من تفاصيل في هذا التاريخ تساوي صفرا المفهوم العلمي، بداية مما كتب من سيرة محمد و تفاصيل دعوته و حروبه وغزواته و صراعاته مع الملأ المكي و حتى وفاته، فالرجل يتجاوز تفاصيل التاريخ المنطقية ليتحول إلى أسطورة حقيقية، ترافقها أحداث و شخصيات تتجاوز حدود ما يعترف به العقل، لتخرج إلى فقاعة الغيبيات التي ما فتئت تتضخم مع كل محاولة للإحاطة بشخصيته.

تاريخنا لم يكتب كشهادة على عصور معينة برواية تفاصيل الأحداث و الشخصيات و تقاطعاتها و صراعاتها السياسية و الدينية و الاجتماعية و الاقتصادية، بل ارتبط دوما برغبة محمومة في تعظيم شأن هاته الشخصيات في كل فترة زمنية ظهرت فيها وذلك عبر إحاطتها بسياج عال من الأساطير و الأفعال و الأقوال التي يعجز العقل عن القبول بها كجزء من الواقع. و البداية كانت مع محمد بالذات، فقراءة السيرة النبوية مهمة مضنية و معقدة من فرط المجهود الضخم الذي قد يبذله كل من يسعى لفهم الأحداث بمنظور العقل المتجرد و الموضوعي، ناهيك عن التضخم الغير مبرر في كم الكتب و النصوص التي تتحدث عن الرجل، و تزخر بكمية مرعبة من التفاصيل و التقاطعات المتناقضة فيما بينها.

منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يلقي خطبة حجة الوداع
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يلقي خطبة حجة الوداع

محمد كشخص قد تجاوز الحدود البشرية في التاريخ الإسلامي ليتحول إلى أسطورة ضخمة و متعددة الصفات و الأوجه، فمن جهة لا يمكننا أن ننكر أن الرجل قد كان بالدرجة الأولى ثائرا و متمردا على المفاهيم والنظم الإجتماعية و الدينية للمجتمع الذي ولد ونشأ فيه، و هو بهذا الشكل قد يحمل صفة المصلح الديني و الإجتماعي مثل العديد من الشخصيات التي سبقته (زرادشت، بوذا، ماني .. )، لكنه كان في نفس الوقت رجل سياسة براغماتي جدا و انتهازي بشدة في مراحل متعددة من صراعه مع قريش وسادتها، وهي المعارض الأول لمحاولته الإصلاحية، بل حتى مع قبائل يهود يثرب و زعمائها، فقد سعى محمد لتشكيل التحالفات السياسية و العسكرية و الإقتصادية حتى مع أولئك الذين كان يعرف يقينا أنهم يعادون حركته في سرهم و يظهرون له غير ما يبطنون، فدعوته لرهط من أصحابه للهجرة للحبشة لم تكن سوى سعيا وراء إمكانية تحقيق تحالف سياسي مع ملكها أصحمة ابن أبجر الملقب بالنجاشي، و ذلك باعتباره أقرب سلطة سياسية جغرافيا لمكة، و لما لا تحالف عسكري يدعمه في صراعه مع الملأ المكي، لكن المحاولة باءت بالفشل لكون ملك الحبشة لم يشأ أن يفقد علاقاته التجارية و تحالفه مع سادة قريش، بل و  حتى هجرته من مكة إلى المدينة لم تكن إلا نتيجة مباشرة لتحالف سياسي مع قبيلة الخزرج القوية في المدينة، و أبلغ دليل على هاته الحقيقة هو كونه قد اختار النزول عند أخواله من قبيلة بني النجار الخزرجية، و رغم أن البعض قد يتحجج بكون محمد لم يكن له أخوال مباشرون أي بمعنى أشقاء فعليون لأمه آمنة بنت وهب، لكن درج العرف عند العرب حينها ( ولا زال حتى اليوم ) في اعتبار جميع رجال القبيلة التي تنحدر منها الأم أخوالا.

و من الجدير بالذكر أن هاته الهجرة قد سبقتها محاولات متكررة للحصول عى مشروعية سياسية و اجتماعية لدى قبائل أخرى مجاورة لمكة، و لعل أبرزها هي محاولته الحصول على الدعم لدى قبيلة ثقيف في منطقة الطائف جنوب شرق مكة، و هي قبيلة منافسة لقريش من الجانب الاقتصادي، و قد عرفت بالزراعة كنشاط إقتصادي أساسي، و بالتالي كانت علاقة الملأ المكي و سادته بها علاقة حيوية من حيث الحاجة للغذاء في مكة القاحلة التي لا ينبت فيها زرع، لكن المحاولة فشلت عندما تعرض محمد هناك للإهانة و الضرب رغم أنه قد عرض على سادتها أن تحتضن الطائف دعوته التي رفضتها قريش و رفضها سادة مكة، بل و حتى عندما طلب من سادة ثقيف أن يخفوا أمر قدومه لديهم عن قريش لم يجيبوه إلى ذلك إمعانا في الإهانة، و في طريق عودته إلى مكة توقف للمبيت ليلا في واحة و قام للصلاة، فنزلت عليه الآيات التالية من سورة الجن : ” قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) “ فعاد إلى رفيقه في الرحلة زيد ابن حارثة (كان إبنه بالتبني حينها) ليحدثه بكون الجن قد إستمعوا إليه و هو يقرأ القرآن في صلاته، و إذا ما تعاملنا مع هذه القصة بشكل موضوعي و متجرد فسوف نجد أن هذا التصرف و الإدعاء الغريب ليس له إلا معنى واحد، فالرجل قد ذهب يبحث عن الدعم المادي و المعنوي لدى قبيلة من سادة العرب، لكنه أهين  و طرد شر طردة،  و بالتالي فادعاءه بأن الجن يستمع له و هو يقرأ القرآن و يقتنع بدعوته لهو في نهاية الأمر تعويض نفسي عما وقع له عند ثقيف التي إحتقرت دعوته و رفضت دعمه، فالبشر الجاحدون يرفضونه بينما الجن و هم مخلوقات خارقة يستمعون لقرآنه خفية في ظلمة الليل و يتخشعون من فرط التأثير، و حتى عند عودته لمكة بعد رجوعه من الطائف لم تكن لمحمد الجرأة على دخولها و هو عائد إلبها مطرودا و مهانا، فتوقف خارج المدينة و أرسل برجل من قبيلة خزاعة إلى رجل من سادة قريش يدعى المطعم بن عدي و هو من بني عبد مناف، أي من نفس نسب محمد، ليطلب منه أن يجيره ليدخل مكة تحت حمايته، و هو ما كان، و يروي ابن سعد في طبقاته الكبرى القصة كما يلي : ” ودعا المطعم بنيه وقومه فقال: «تلبسوا السّلاح وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدًا»، فدخل محمد ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى «يا معشر قريش إني قد أجرت محمدًا، فلا يهجه أحد منكم» فانتهى النبي محمد إلى الركن فاستلمه وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته والمطعم بن عدي و ولده محيطون به “.

رسم عثماني لحادثة قتل النضر ابن الحارث لى يد علي ابن أبي طالب عقب أسره في معركة بدر
رسم عثماني لحادثة قتل النضر ابن الحارث على يد علي ابن أبي طالب عقب أسره في معركة بدر

و قد تلت هاته المحاولة مع ثقيف محاولات أخرى مع عدة قبائل أخرى، حيث كان محمد يترصدها في مواسم الحج و يلتقي بسادتها عارضا أمره عليهم لعله يحصل على تحالف يدعم دعوته، و قد حاول مع بني حنيفة و كندة و هم من سادة العرب آنذاك، لكنهم لم يستجيبوا لدعوته, أما بنو عامر فقد اشترطوا عليه أن يكون الملك لهم من بعده لكنه رفض، و قد استمر في محاولاته الدؤوبة موسما بعد موسم حتى كانت بيعة العقبة الأولى ثم الثانية التي انتهت بتحالف مباشر مع الأوس و الخزرج و هو التحالف الذي كان يحقق مصلحة القبيلتين معا في مواجهة يهود يثرب و نواحيها.

و في مرحلة أخرى بعد هجرته ليثرب لم يتردد محمد في التحالف مع من كانت العرب تسميهم بالصعاليك، و هم عصابات من المجرمين و القتلة و اللصوص الذين طردتهم قبائلهم وسموا بالـ (الخلعاء)، و قد تجمعوا فيما بينهم مشكلين جماعات صغيرة تمتهن قطع الطريق على قوافل الحج و التجارة و غزو مرابض القبائل و قطعان الإبل، و كانوا يتنقلون بحرية بين دروب الصحراء، يحترفون القتل و الخطف و السبي، مما شكل منهم قوة مرعبة بالنسبة للعرب حينها، و قد كان أشهرهم هو الصحابي أبو ذر الغفاري، وهو من أعتى صعاليك عصره وينتسب إلى قبيلة غفار المشهورة باحتراف قطع الطرق على القوافل لسرقتها و نهبها.

و في حركة شديدة البراغماتية سياسيا و عسكريا لجأ محمد إلى التحالف معهم لأنه فهم أنهم قوة عسكرية تشبه المرتزقة و لهم خبرة كبيرة بمسالك الصحراء و طرق القوافل التجارية، و سوف يساعدونه في حربه مع قريش و خاصة في الإغارة على الآبار و محطات توقف قوافل تجارتهم، فالرجل قد هاجر خارج المدينة مع أتباعه و أصحابه تاركين أموالهم و أراضيهم و أملاكهم، و بات في حاجة لمداخيل مادية كبيرة لكي يوفر لهم معيشة قارة و لكي يستطيع تسليحهم و إعدادهم لمعاركه.

و قد جاء في الطبقات الكبرى، لابن سعد في الجزء الأول، ص155 : “كتب رسول الله صلعم لجُمّاع كانوا في جبل تهامة قد غصبوا المارة من كنانة ومُزينة والحكم والقارة ومن اتبعهم من العبيد، و قد وفدَ منهم وفدٌ على النبي فكتب لهم رسالة قال فيها :

“بسم الله الرحمن الرحيم, هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لعباد الله العتقاء, أنهم إن آمنوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فإن عبدهم حرّ, و مولاهم محمد، و من كان منهم من قبيلة لم يردّ إليها, و ما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه فهو لهم، و ما كان لهم من دين في الناس رُدّ إليهم, و لا ظلم عليهم و لا عدوان و إن لهم على ذلك ذمة الله و ذمة محمد والسلام عليكم”.

لوحة منمنمات فارسية يرجع تاريخها للعام 1550 تتوقع النبي محمد و هو يركب البراق في رحلة المعراج.
لوحة منمنمات فارسية يرجع تاريخها للعام 1550 تتوقع النبي محمد و هو يركب البراق في رحلة المعراج.

ها هو النبي إذن يضع معالم تحالف قوي مع عصابة من المجرمين و قطاع الطرق، فيضع نفسهم في مقام مولاهم (سيدهم و زعيمهم)، و يؤمنهم بعدم إعادتهم لقبائلهم عنوة، و جعل جرائمهم من القتل و السرقة و السلب و النهب و السبي فعلا مشروعا لهم، بل زاد على ذلك بأن جعل لهم في أعناق الناس دينا رغم كونهم في عرف القبائل مجرد مجرمين يحترفون السرقة و قطع الطريق، بل و جعلهم في ذمته مما يعني أن كل من يحاربهم يحاربه و يستعديه، و كل هذا طبعا مشروط بأن يقروا بنبوته و يتبعوا دعوته و يطبقوا طقوس الدين الجديد، و ها هو محمد هنا يتصرف بسياسة منفعية خالصة و هو يتحالف مع عصابات من القتلة و اللصوص لكي يقوي بهم دعوته و يسيرهم لاعتراض قوافل قريش المتجهة إلى الشام، فهو يعلم جيدا أن لا سبيل له لإقناع أنصاره في يثرب للخروج وراء قوافل قريش لمهاجمتها، خاصة و أن حلفه معهم لا يتضمن الدفاع عنه خارج حدود يثرب ( في معركة بدر لم يخرج معه أكثر من ثلاثمائة و عشرون رجلا، مع العلم أنه قد هاجر معه أكثر من مئتين من أصحابه من مكة)، و لهذا لجأ إلى عصابات الصعاليك، فهم ليسوا بحديثي عهد بقطع الطرق و السرقة و القتل، و لهذا استخدمهم كمرتزقة في حربه مع قريش.

يقول المؤرخ الكبير د. جواد علي في كتابه : المفصّل في التاريخ، الجزء التاسع، ص 602 : “والصعاليك حاقدون على مجتمعهم، متمردون عليه لا يبالون من شيء و لو كان سلباً و نهباً و قتل أبناء عشيرتهم، لأنهم خلعوا منه و كل ما تقع أعينهم عليه، و هو مفيد لهم نافع، و من حقهم انتزاعه من مالكه، و إن كان مالكه فقيراً معدماً مثلهم…و يرون الخلاص من هذا الذل بالحصول على المال بالقتل و السيف، فمن استعمل سيفه نال ما يريد، لا يبالي فيمن سيقع السيف عليه، و إلا عدّ من العيال“، و دعونا نتأمل في حديث لمحمد يتوافق تماما مع توجه الصعاليك، أليس هو القائل : “من قتل رجلا له عليه بينة فله سلبه“، و ما البينة هنا إلا الفرق بين من آمن بدعوته و صدق نبوته و اتبعه، و إلا كان كافرا يحل دمه و ماله و عرضه، و هذا بالضبط هو صميم العهد بينه و بين عصابات الصعاليك التي تقوى بدعمها على المضي في أمره.

و بالإضافة إلى كل ما سبق، فمن الضروري أن نعرج على سعي الرجل للحصول على السلطة السياسية الفعلية في يثرب، فقد كانت له مواجهات عنيفة مع القبائل اليهودية هناك أو من سماهم في القرآن ببني إسرائيل، فبعد هجرته للمدينة وجد محمد أن لليهود فيها تواجدا قويا على المستوى الإقتصادي أولا، فهم أصحاب تجارة كبيرة و متشعبة تتوزع بين الفلاحة و التمور و صناعة و بيع السلاح التي لم يكن العرب يتقنونها حينها، إلى جانب إمتلاكهم لمزارع و أراضي شاسعة في المدينة و خارجها حول حصونهم، أما  على الجانب السياسي فقد كانت قبيلة بني قينقاع حليفة لقبيلة الخزرج بينما قبيلة بني النضير و بني قريظة حلفاء لقبيلة الأوس، و لأن محمدا قد كان ضيفا جديدا على يثرب فقد كان يعي ببراغماتيته الشديدة أن اليهود عنصر أساسي في المعادلة السياسية الجديدة التي أصبح يتحرك داخلها، كما كان  يعي أيضا أنه بحاجة لمساندتهم في مواجهته مع قريش التي بات يهاجم قوافلها المتجهة من مكة إلى الشام شمالا و التي تعبر على طريق يثرب، و بالتالي فهو في حاجة لدعمهم المادي سواء بالمال أو بالسلاح، و لا عجب هنا أن نجد القرآن قد خصص لهم عشرات الآيات التي يتودد فيها إلى بني إسرائيل حيث وصف فيها رسلهم و أنبياءهم و ما أنزله الله إليهم في التوراة مؤكدا على كون نبوته هي إستكمال إلهي لما فضل به الله بني إسرائيل على العالمين، و مدحهم بكونهم أهل إيمان و صلاح و تقوى خصهم الله بشرائعه قبل باقي الأمم و الشعوب، لكن مع ذلك ظل اليهود على موقفهم من محمد يرفضون التعامل معه على أساس كونه نبيا مرسلا من الله و بكتاب منزل بالوحي، فهم يرون أن النبوة فضيلة إلهية كبرى مرتبطة بالعرق أولا،  و مقدسة ثانيا، فقد خصهم الله بها دونا عن باقي البشر و هم لم يعترفوا بعيسى المسيح الذي إعتبروه كاذبا و مدعيا فكيف يعترفون بمحمد بعده بأكثر من 6 قرون، و حينها إدعى محمد أنه مذكور عندهم بصفته و إسمه في التوراة أو العهد القديم، لكنهم حرفوا كتبهم لينكروا نبوته و يكذبوا على الله و يجحدوا دعوته لهم بالحق، و بعد هذه النقطة مباشرة جاءت دعوة محمد المباشرة ليهود يثرب للدخول في الأسلام، حيث تذكر سيرة إبن هشام أنه بعد عودته من معركة بدر مزهوا بإنتصاره على قريش، جمع اليهود في سوق بني القينقاع فقال : ” يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا “، فأجابوه قائلين : ” يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أننا نحن الناس و أنك لم تلق مثلنا “،و قد كانت هاته الحادثة بمثابة الباب المفتوح للمواجهة المباشرة بين محمد و القبائل اليهودية الثلاث التي تستوطن يثرب و ضواحيها.

و قد تلتها معركة و حصار على حصون بني قينقاع إنتهت بطردهم من حصونهم و إجلاءهم عن يثرب تاركين بيوتهم و أراضيهم و أموالهم غنيمة للمسلمين، و لولا تدخل عبد الله بن أبي سلول الذي أجبر محمدا على إخلاء سبيلهم لكان مصيرهم مشابها لمصير بني قريضة، فقد حاصرهم محمد بجيشه بعد غزوة الأحزاب، بعد أن إتهمهم بالخيانة و التحالف مع قريش ضده، و إنتهى الحصار كما نعلم بتلك المذبحة البشعة التي أهلكتهم، حيث قتل محمد رجالهم، حتى الأطفال ممن بلغوا الحلم، و باع من تبقى من نساءهم و أطفالهم كعبيد في أسواق اليمن و البحرين، و اشترى بثمنهم الخيل و السلاح ليجهز العدة لغزو مكة.

و ما إن مكنت السلطة لمحمد بفتح مكة و ضمن سيطرته على أغلب قبائل نجد و الحجاز، حتى أمر بإخراج من سماهم بالمشركين و النصارى و البهود من جزيرة العرب، و تلك كانت آخر وصاياه و هو على فراش الموت.

كل هاته الأحداث التي فصلتها أعلاه تبين أن محمد قطعا لم يكن رجلا عاديا، بل كان شديد الذكاء و لم يتوانى لحظة واحدة عن انتهاز أية فرصة تمنحه التفوق السياسي و العسكري و تحقق له الموارد الإقتصادية و المالية التي تسمح له بمد دعوته بين قبائل العرب، حتى و هو يتحالف مع المجرمين و قطاع الطرق في تصرف مشين لا يليق بمقامه كنبي و مصلح ديني و إجتماعي، لكن المشكلة الأساسية هنا هي أن الطريقة التي كتب بها التاريخ الإسلامي كما نعرفه لا تسمح بتاتا بالتعرف على هاته الجوانب المهمة و المفصلية من حياة الرجل وةتاريخ دعوته، و لا تسمح بدراستها و تحليلها بالطريقة المجردة و الموضوعية التي تخرجه من ذلك البعد الأسطوري الذي أضفاه عليه كناب السيرة و المؤرخون العرب و المسلمون، هذا البعد قد حول محمد لشكل من أشكال الميتاتاريخ، حيث يتجاوز الرجل وجوده كبشر ليتحول إلى شخص مقدس خارج من عمق الغيبيات التي بني عليها الإسلام كدين، و خصه الله باصطفاء سماوي يرفعه إلى مراتب تتجاوز قدرات البشر العادية، فتصبح كل تصرفاته و اختياراته و قراراته مجرد تطبيق لإرادة إلهية حتى و إن كانت مجرد خيارات بشرية محضة تصيب و تخطئ، بل و تلجأ أحيانا لقمة الإنتهازية للوصول لأهداف بعينها.

مهدي بوعبيد

19/03/2018

المميز

ميثرا … المسيح الوثني بين الهندوسية و الزرادشتية – الجزء الأول

هو إله هندو-إيراني قديم يعود أصله إلى حقبة ما قبل إنفصال الحضارتين الهندية و الفارسية القديمة، و لعل هذا هو سبب وجود أنشودة كاملة بإسمه في كتاب (الريغ فيدا) الهندوسي المقدس، رغم أن ميثرا لم يعد له وجود في مجمع الآلهة الهندوسية بعد انفصال الحضارتين قبل آلاف السنين.

منحوتة تعود للحقبة الرومانية تمثل الولادة المعجزة للإله ميثرا من الصخرة، و قد عثر عليها شمال بريطانيا و توجد حاليا بمتحف نيوكاسل.
منحوتة تعود للحقبة الرومانية تمثل الولادة المعجزة للإله ميثرا من الصخرة، و قد عثر عليها شمال بريطانيا و توجد حاليا بمتحف نيوكاسل.

 

يعرف ميثرا في الميثولوجيا الفارسية القديمة بكونه إبن (آناهيتا) أو ناهد في اللغة الفارسية الحالية، و معناها “الطاهرة” أو “النقية بدون خطيئة” و هي أيضا آلهة فارسية  قديمة تمثل التصور الفارسي لآلهة بلاد الرافدين الربة (عشتار)، التي بعدها الآكاديون و البابليون و الآشوريون، كما أنها تماثل آلهة النهر الهندية القديمة (ساراسواتي) و هي زوجة و أخت الإله (براهما) كما تذكر ملحمة (الماهابهاراتا) الهندوسية القديمة، و في سياق آخر يستخدم إسم (ناهد أو ناهيد) في الفارسية القديمة لتسمية كوكب الزهرة (Venus)، و قد عثر على نقش قديم في أحد المعابد المخصصة لهاته الآلهة يقع في مدينة (كنكاور – Kangouar) في منطقة كرمنشاه غرب إيران  يصفها بالكلمات التالية : ” آناهيتا العذراء، الطاهرة، أم الرب ميثرا “.
تمثال يصور الإلهة الفارسية القديمة آناهيتا، يعود للقرن الخامس قبل الميلاد، و يوجد حاليا بالمتحف البريطاني.
تمثال يصور الإلهة الفارسية القديمة آناهيتا، يعود للقرن الخامس قبل الميلاد، و يوجد حاليا بالمتحف البريطاني.
 يعود أصل الإله ميثرا لحوالي 2000 سنة قبل الميلاد، و تصفه الميثولوجيا الفارسية القديمة بأنه إله الشمس و النور، و اله الصداقة و المعاهدات، و قد ذكر إسمه في أقدم أثر أركيولوجي مسجل يعود للعام 1350 قبل الميلاد، كشاهد على معاهدة بين الملك الحيثي (شوبيلوليوما) و الملك الميتاني (ماتيوازه)، لكن عدا ذلك، لم يعثر على أية آثار أركيولوجية اخرى في إيران أو شبه القارة الهندية تخبرنا عن تفاصيل محددة في ما يخص طقوس عبادة هذا الإله، أو معابد أو منحوتات، و أغلب ما نعرفه عنه اليوم خلال الحقبة الهندو-إيرانية يعود إلى النصوص القديمة التي روت بعض التفاصيل عنه حيث ذكر في كتاب (الريغ-فيدا) الهندوسي كإله ثانوي يساعد الإله (فارونا-Varuna) إله السماء و البحر و يعتبر حارسا لمفاهيم إيجابية كالصداقة و المعاهدات بين البشر، و لهذا كانت طقوسه مرتبطة أكثر بطبقة (البراهمان – Brahman) على رأس هرم الطبقات الإجتماعية في الحضارات الهندية القديمة، و التي تمثل رجال الدين و حماة القانون و النظام بين البشر، مما يجعل ميثرا جزءا أساسيا من مفهوم (الدهارما – Dharma) التي تمثل النظام الأساسي الذي يجب أن يسير عليه نظام الكون لكي لا يختل، على عكس الإله فارونا الذي تصوره الأساطير الهندوسية كإله عنيف جدا يجب أن يتفادى البشر إثارة غضبه، و هو ما يجعله الإله المفضل لدى طبقة المحاربين (كشاتريا – Kshatriya).
منحوتة للإله الهندوسي فارونا، تعود للقرن الثامن الميلادي، و توجد حاليا بمتحف مدينة مومباي الهندية.
منحوتة للإله الهندوسي فارونا، تعود للقرن الثامن الميلادي، و توجد حاليا بمتحف مدينة مومباي الهندية.
 يشكل ميثرا و فارونا مفهوما من التوازن بين قدرة فارونا المطلقة و العنيفة، و سعي ميثرا لنشر مفاهيم الصداقة و الحب و الخير بين البشر، و يميل بعض الباحثين الغربيين في الأساطير القديمة إلى مقارنة العلاقة بين الإثنين بالعلاقة التي تربط بين الإلهين المصريين (سيث – Seth) و (حورس – Horus), بحيث يمثل سيث الإرادة القوية بينما يمثل حورس مفاهيم الحب المطلق و العلاقات الطيبة بين البشر.
و يبدو أن مكانة ميثرا في البانثيون الهندوسي قد تضاءلت بشكل كبير من القدم، بحيث تحول لرمز لمفهوم الصديق المحب ( إسم ميثرا قي اللغة السنسكريتية القديمة معناه “الصديق”)، ليتم فيما بعد تعوضه بالإله (فيشنو – Vishnu) الذي ورث معظم مميزاته و رموزه.
منحوتة تصور تتويج الملك الساساني (أردشير الثاني)، و يظهر الملك واقفا في الوسط يتسلم التاج من الإله أهورامزدا، بينما يقف خلفه ميثرا، و يبدو مميزا بهالة محيطة برأسه تمثل نزر الشمس التي يرمز إليها.
منحوتة تصور تتويج الملك الساساني (أردشير الثاني)، و يظهر الملك واقفا في الوسط يتسلم التاج من الإله أهورامزدا، بينما يقف خلفه ميثرا، و يبدو مميزا بهالة محيطة برأسه تمثل نزر الشمس التي يرمز إليها.
 على مستوى آخر، لا يوجد تاريخ محدد لأفول نجم ميثرا من في الديانة الهندوسية و تحوله لبلاد فارس، لكن الشيء المؤكد هو أن الديانة الزرادشتية قد تبنته كجزء من مفاهيمها داخل الثنائية التي بنيت عليها بين أهورامزدا إله النور و الخير و توأمه المقابل أهريمان رمز الظلام الشر، و قد تم إدماج ميثرا وسط هذه الواجهة الأزلية بين الخير و الشر، كمساعد لأهورامزدا الذي يسهر على ثبات النظام الكوني، و بذلك تحول إله النور و الشمس إلى كائن ملائكي ينتمي لما يسمى ب (اليازاتا) و هي كائنات ترافق الإله أهورامزدا و تعينه على محاربة الفوضى و الشر الذي يسعى أهريمان لنشره في الكون، و بذلك إستمرت رمزية ميثرا الرئيسية مرتبطة بنفس المفاهيم التي اكتسبها في البانثيون الهندوسي و هي مفاهيم خيرة تمثل النور و الحق و العدل و النزاهة، و محاربة الكذب و الخطيئة و الخيانة بين البشر، لكنه بذلك قد فقد مكانته كإله قائم بذاته و تحول إلى شخصية ثانوية في الديانة الزرادشتية، إلى أن اختفت عبادته تماما لصالح أهورامزدا و لم تعد هناك طقوس مرتبطة به، بحيث بقي منه أثر جد بسيط، و هو عبارة عن قرص مضيء من الذهب كان أكاسرة و ملوك فارس يلبسونه في تيجانهم كرمز لإله الشمس و النور ميثرا.
و تذكر النصوص الزرادشتية في كتاب (الأفيستا) المقدس، أن ميثرا قد خلقه الإله أهورامزدا من وسط صخرة ضخمة في ولادة إعجازية، و هو المشهد الذي تؤكده أغلب المنحوتات الموجودة حاليا في المتاحف، و التي تصور ميثرا خارجا من الصخرة و هو يحمل في يده اليمنى مصباحا يرمز إلى النور، و في اليد اليسرى سيفا أو خنجرا يرمز لمحاربته لقوى الظلام و الشر. و لعل إحدى أهم الأساطير المرتبطة بهذا الإله، هي قتله للثور الكوني، بحيث يظهر في عدة رسوم و منحوتات تعود للفترة الرومانية و هو يصارع و يقتل ثورا ضخما، تحولت دماءه لمصدر للحياة على الأرض.
مهذي بوعبيد
05/01/2018
المميز

الأسطورة، أصل كل الأديان

الأسطورة في بنيتها الأصلية تمثل محاولة بدائية لفهم العالم بكل ظواهره، و لأن الإنسان القديم لم يكن يملك من الأدوات المعرفية و العقلية ما يسمح له بتفكيك هاته الظواهر و وضع تصورات منطقية لفهمها، فقد لجأ للتفسير الغيبي، و إخترع آلهة متعددة تمثل هاته الظواهر الكثيرة والمتشعبة فيما بينها، و هذا التشعب هو ما أنتج هذا الكم الهائل من الأساطير التي تتداخل فيها الآلهة و تتصارع و تتواجه فيما بينها.
وبنفس المفهوم الذي أنتجت به الأسطورة الحاجة للآلهة لتفسير العالم و الطقوس الدينية التي تقرب الإنسان من هاته الآلهة، فهي تمنحنا اليوم إمكانيات لا حصر لها لتفكيك بنية الأديان على كل المستويات، فالعقل الذي كان عاجزا قبل آلاف السنين عن فهم العالم و ظواهره، قد بات اليوم قادرا على السيطرة على الطبيعة بطل مكوناتها و تسخيرها لخدمة غريزته الأولى و هي البقاء، و هذا العقل لم يعد في حاجة للأسطورة و لا الآلهة التي أنتجتها لكي يحدد موقعه في هذا الكون.

هذه المدونة تعنى بمجال التاريخ بشكل عام وتاريخ الأديان بشكل خاص, بالإضافة لكيفية ظهورها و تشكلها في الوعي البشري منذ الأزل وصولا إلى الصورة التي هي عليها اليوم، كما تعنى أيضا بدراسة و تفسير الأساطير والمرويات والمفاهيم التي شكلتها، و مدى تأثيرها في تكون أولى محاولات الفهم البشري للعالم و الطبيعة بكل مكوناتها.

من دين مغمور إلى أداة سياسية قصة قسطنطين العظيم و المسيحية – الجزء الأول –

لم تكن الديانات الإبراهيمية الثلاث تعبيرا عن إرادة إلهية، بقدر ما كانت أدوات لتحقيق إرادة قومية و سياسية على أرض الواقع.
إن الدراسة المتأنية و العقلانية لتاريخ هاته الديانات هي الوحيدة الكفيلة بإلقاء الضوء على تلك المرحلة المفصلية التي يتضاءل فيها الجانب الروحي لتحتل مكانه السياسة بكل تشعباتها و تداخلاتها مع النزعات القومية، لتحول الدين إلى أداة تمكن من تركيز السلطة في يد أشخاص معينين، هاته اللحظة الحاسمة ينقطع فيها حبل الوصل بين الآلهة في السماء و بين المؤمنين بها على الأرض لتتحول إلى آلهة مفارقة بحق، لا وجود لها إلا في النصوص.
في الديانة اليهودية نجد هاته المرحلة الحساسة تتبلور مع أسطورة الخروج اليهودي من مصر و دخول أرض كنعان و قتل و ذبح سكانها تحقيقا لوعد الإله يهوه لشعبه المختار، وقد شكلت لحمة جديدة و قوية سمحت بتوحيد القبائل البدوية التي كانت تعيش في أرض كنعان القديمة، و نجحت فعليا في توحيد قبيلتي يهوذا و السامرة في كيان واحد، بعد أن كانتا خاضعتان للتأثير المباشر للحضارات و الإمبراطوريات الضخمة التي تحيط بها من كل جانب. -راجع المقال التالي- :
بينما في الإسلام، يمكن تحديد هاته اللحظة الحاسمة، في حروب الردة التي شنها الخليفة الأول أبو بكر ضد قبائل العرب بعد موت محمد، فرغم تسميتها بحروب الردة، إلا أنها لم تكن قطعا دفاعا عن الدين الذي ارتد عنه العرب، بل دفاعا عن سلطة سياسية وليدة و تفتقد إلى المشروعية التي تمكنها من التمدد، خاصة أن القبائل التي اتهمت بالردة، لم ترتد فعلا عن الدين و لكنها رفضت دفع أموال الزكاة و الصدقات للخليفة الذي لم يبايعه أحد خارج مكة و المدينة، و فضلت كل قبيلة توزيع أموالها على فقراءها دون تسلط من أحد، و هو لم يعجب الخليفة، خاصة و أن المال هو سلاح السلطة الأول في مواجهة العصبية القبلية.
 أما في المسيحية، نجد القطيعة مع السماء تحدث في اللحظة التي إدعى فيها الإمبراطور الروماني قسطنطين أنه قد رأى صليبا نازلا من السماء خلال معركة جسر ميلفيو عام 312 ميلادية ضد منافسه على عرش روما القيصر مكسنتيوس (MAXENTIUS)، و هي نفس اللحظة التي تحولت فيها المسيحية من مجرد دين هامشي تنكل روما بأتباعه و ترمي بهم إلى الأسود و المجالدين (Gladiators) إلى الديانة الرسمية للإمبراطورية، لكن كيف تغير المشهد بهذه السرعة، و تحولت روما التي ظلت وثنية طيلة قرون، إلى دين شبه مجهول يعتنقه الفقراء و الجنود لتجعل منه الدين الرسمي للدولة .. ؟؟!
لوحة تصور رمز المسيح و هو يظهر لقسطنطين في السماء ليلة معركة جسر ميلفيوس، من رسم الفنان الفلاماني بيتر بول روبنز Peter Paul Rubens و توجد حاليا بمتحف الفن مدينة فيلادلفيا الأمريكية.
لوحة تصور رمز المسيح و هو يظهر لقسطنطين في السماء ليلة معركة جسر ميلفيوس، من رسم الفنان الفلاماني بيتر بول روبنز Peter Paul Rubens و توجد حاليا بمتحف الفن مدينة فيلادلفيا الأمريكية.
لقد تحولت المسيحية من مجرد أفكار إصلاحية تتمحور حول اليهودية و تهدف إلى الحد من سلطة الحاخامات المطلقة على الشعب إلى وسيلة سياسية إستخدمها الإمبراطور الروماني قسطنطين في مواجهته مع خصمه الإمبراطور مكسنتيوس في معركة جسر ميلفيوس شمال روما في يوم 28 من شهر أكتوبر للعام 312 ميلادية، و قد كانت معركة فاصلة وضعت حدا لصراعات سياسية نتج عنها تقسيم الإمبراطورية الشاسعة إلى عدة دويلات يحكمها سبعة قياصرة، و لأنه كان في منتهى البراغماتية السياسية، فقد بقي قسطنطين وثنيا و لم يؤمن بالمسيح طيلة حياته و لم يعمد إلا على سرير وفاته من قِبل مؤرخه الأول و مستشاره الديني الراهب يوسابيوس النيقوميدي، و لا زالت الكنيستان الكاثوليكية و الأرثوذكسية تصران على كون قصة رؤيته المقدسة إبان المعركة معجزة حقيقية من السماء، بحيث يروي المؤرخ أوساويوس القيصري أن قسطنطين في الليلة التي سبقت المواجهة الحاسمة، قد نظر إلى السماء ورأى صليباً هابطا من فوق نور الشمس ومعه كلمات باليونانية تقول “فز بهذا”، و عندها أمر قسطنطين قواته برسم الصليب رمز المسيحية  على دروعهم و راياتهم، و بعد ذلك انتصروا فعلا رغم أن عددهم كان أقل من عديد جيش الخصم، و رغم تشبث الكنيسة الكاثوليكية بهاته الرواية الميتافيزيقية، التي تتنافس المصادر المسيحية في التغني بها، إلا أنها تتعمد إغفال ذكر تفصيل مهم جدا في هذه اللحظة الفاصلة في التاريخ، فالصراع ما بين قسطنطين و مكسنتيوس كان جزءا من صراع أكبر بعد تشتت السلطة في روما بين سبعة حكام، كل واحد منهم سيطر على حيز جغرافي من الإمبراطورية تحت حكمه و عين نفسه قيصرا، و أكثرهم طموحا و عزما كان هو الإمبراطور قسطنطين، و المسيحية التي كانت مجرد دين مغمور حينها لم تكن إلا أداة استخدمها بمنتهى الحصافة و الذكاء لتكريس طموحه في السلطة، و من هنا خرجت قصة الرؤية الإعجازية التي لم تكن سوى مناورة ذكية جدا من الإمبراطور، بحيث كان يعرف جيدا أن الديانة المسيحية الفتية منتشرة جدا بين الجنود الرومان (Centurions)، رغم كونها ديانة مضطهدة من طرف روما و يتعرض أتباعها للتنكيل بهم بأبشع الطرق منذ عهد الإمبراطور المجنون نيرون (حكم خلال الفترة ما بين العام 54 و 68 ميلادية) الذي إتهم المسيحيين بإحراق روما، و هذا ما تؤكده اللقى الأثرية العديدة في مواقع الحصون الرومانية القديمة و التي عثر فيها على رمز الصليب محفورا على الحجارة، و تاريخها يعود للقرن الأول و الثاني الميلادي، قبل مجيء قسطنطين للحكم خلال القرن الرابع، و لأنه كان متأكدا أن جيش خصمه مكسنتيوس يحوي جنودا مسيحيين أيضا، فقد تفتق عقله عن هذه الرؤيا المعجزة التي نجحت في توحيد هؤلاء الجنود تحت راياته التي أمر برسم الصليب عليها، ليحول موقعه في نفس اللحظة و بمنتهى الذكاء من قائد عسكري يطمح للإستئثار بحكم الإمبراطورية الرومانية الممتدة إلى نصير للمسيحيين المضطهدين، اختارته السماء بعد أن اختصته برؤيا هي أقرب إلى الوحي الذي تلقاه المسيح، و هو ما حول المعركة تماما إلى صالحه، و استطاع قلب الموازين و سحق خصمه، و دخول روما كإمبراطور مكلل بنصر إلهي، لقد تحول في وقت وجيز إلى نبي تتحدث إليه السماء و تأمره بنصرة أتباعها المستضعفين.
لكن هذا النصر لم يكن كافيا لضمان السيطرة المطلقة على دواليب الحكم في الإمبراطورية الضخمة، فإلى جانب المسيحية، كانت طبقة الضباط و القادة في الجيش و طبقة النخبة السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية في غالبيتها العظمى تتبع الديانة الميثرائية، نسبة إلى إله وثني قديم هو ميثراس، و رغم كونها مناقضة تماما للمسيحية في مفاهيمها العامة، سوف ينجح قسطنطين في حركة في منتهى الذكاء في الدمج بينها و بين المسيحية، ليخلق بذلك دينا جديدا تماما يوحد به رعايا الإمبراطورية من أقصى غرب أوروبا إلى آسيا الصغرى مرورا بشمال إفريقيا تحت سلطته.
خريطة توضح مدى إنتشار الديانة الميثرائية في الإمبراطورية الرومانية خلال القرن الثالث الميلادي قبل وصول قسطنطين للحكم، إلى جانب اليهودية و عبادة الإله جوبيتر - بعل، إلى جانب المسيحية التي انتشرت بقوة خلال القرن الرابع الميلادي. النقاط الحمراء تبين أماكن المعابد الميثرائية التي كانت منتشرة في كل أنحاء الإمبراطورية، من الأناضول، إلى مصر مرورا بشمال إفريقيا و على كامل امتداد القارة الأوروبية.
خريطة توضح مدى إنتشار الديانة الميثرائية في الإمبراطورية الرومانية خلال القرن الثالث الميلادي قبل وصول قسطنطين للحكم، إلى جانب اليهودية و عبادة الإله جوبيتر – بعل، إلى جانب المسيحية التي انتشرت بقوة خلال القرن الرابع الميلادي. النقاط الحمراء تبين أماكن المعابد الميثرائية التي كانت منتشرة في كل أنحاء الإمبراطورية، من الأناضول، إلى مصر مرورا بشمال إفريقيا و على كامل امتداد القارة الأوروبية.
و هذا ما تؤكده اللقى الأثرية اليوم، حيث اكتشفت في شمال إنجلترا تحت بقايا حائط هادريان The Hadrian Wall (هو عبارة عن حائط دفاعي ضخم بنته روما في اقصى شمال بريطانيا، لحماية حدودها من هجمات البرابرة المتكررة، و قد دعمته بعدة حصون و حاميات عسكرية يتمركز فيها الجنود) على الحدود مع اسكتلندا حصون عسكرية رومانية تعود لمنتصف القرن الميلادي الأول و قد نقش رمز الصليب على حجارتها، و هو ما يؤكد أن المسيحية لم تكن ديانة غريبة على جنود الإمبراطورية حتى في أبعد حدودها الجغرافية، و إلى جانب ذلك وجدت معابد كاملة مخصصة لعبادة للإله ميثراس، غير أن حجمها و طريقة بناءها تؤكد أن الديانة بطقوسها كانت جد نخبوية، و المعابد لم يكن يرتادها الجنود العاديون بل القادة و الضباط في الجيش، و من الضروري التأكيد على تفصيل مهم جدا عند هذه النقطة، و هو أن قسطنطين نفسه قد كان في صغره قائدا في الجيش الروماني في بريطانيا، و والده كذلك، و هذا ما يؤكد أنه قد كان حينها من أتباع الديانة الوثنية، و التي تعلم طقوسها و مبادئها هناك، و هذا ما جعله قادرا فيما بعد على استخدامها إلى جانب المسيحية كأداة سياسية وحد بها الجيش و النبلاء و القادة تحت إمرته ليصل الى هدفه الأسمى و هو توحيد و حكم الإمبراطورية المفككة كلها من الغرب إلى الشرق.
منحوتة تعود للحقبة الرومانية تمثل الولادة المعجزة للإله ميثرا من الصخرة، و قد عثر عليها شمال بريطانيا و توجد حاليا بمتحف نيوكاسل.
منحوتة تعود للحقبة الرومانية تمثل الولادة المعجزة للإله ميثرا من الصخرة، و قد عثر عليها شمال بريطانيا و توجد حاليا بمتحف نيوكاسل.
في الجزء الثاني من هذا البحث، سوف نتعرض بالتفصيل لسلسلة الإصلاحات الدينية التي دشنها قسطنطين العظيم، و التي حولت مركز الإمبراطورية، من غرب البحر الأبيض المتوسط الى شرقه، إلى عاصمته الجديدة، القسطنطينية.
مهدي بوعبيد
19/09/2018

من اللهجة إلى اللغة الرسمية … كيف يحدث التحول :

أي لغة كيفما كان نوعها و تاريخ تشكلها، بدأت كلهجة عامية أولا، تستخدم كأداة تواصل شعبية، يستخدمها العامة، لأن الجميع يفهمها و يعبر بها عن نفسه في أي سياق كان، سواء علاقات إجتماعية محضة، تعامل تجاري أو إقتصادي، تعبير عن مشاعر معينة، و هذا ينطبق على كل لغات العالم سواء الميتة منها أو الحية،  و السؤال هنا، هو متى يتغير هذا المعطى و تتحول اللهجة العامية الى لغة رسمية تمثل كيانا سياسيا و إجتماعيا و قوميا واحد، الشرط الأول و الأساسي لحدوث ذلك، هو تشكل الإرادة السياسية التي تقرر إختيار لهجة بعينها، تبعا لمعطيات واقعية و عملية لكي تصبح تلك اللهجة هي اللغة الرسمية للكيان السياسي.
هذا ما حدث مع اللغة العربية، التي لم تكن سوى لهجة من بين آلاف اللهجات التي تتحدث بها قبائل نجد و الحجاز و اليمن و بادية السماوة شمال شبه الجزيرة طيلة مئات السنين، إلى جانب لغات محلية أخرى منتشرة بين القبائل المسيحية أو اليهودية، أو أتباع المذاهب المسيحية الهرطوقية الذين من البطش الروماني إلى شبه الجزيرة العربية. لكنها طيلة قرون لم تتحول للغة رسمية بقيت مجرد لهجة، وذلك لغياب كيان سياسي قوي لديه إرادة سياسية لكي ينصبها بهذا الشكل، و لم يحدث هذا إلا في عصر خلافة علي بن أبي طالب كأول محاولة جدية، حين طلب الخليفة من أبي الأسود الدؤلي القيام بتنقيط القرآن، و رغم تلك المحاولة الخجولة الأولى، لم ينجح الأمر و استمرت لغة الدواوين الرسمية بالنسبة للدولة تتراوح ما بين الفارسية أو السريانية، و هي لغات العالم القديم آنذاك، و التي أصبحت كذلك تبعا لوجود الإمبراطورية الإخمينية التي نصبت الفارسية كلغة رسمية في مناطق حكمها، و بسبب ارتباط الإنجيل و المذاهب المسيحية القديمة باللغة السريانية كلغة عبادة دينية بالدرجة الأولى، و بالتالي لم تتطور اللغة العربية و لم تنشأ لها قواعد ثابتة لتتحول للغة رسمية قائمة بذاتها، إلا عند مجيء الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، الذي أقنعه وزيره و مستشاره الحجاج بن يوسف الثقفي بضرورة تعريب دواوين الدولة و مراسلاتها التي كانت تكتب باللغة الفارسية، و ذلك لترسيخ قواعد حكمه و إمبراطوريته التي كانت تزداد شساعة يوما بعد بسبب الغزوات (الفتوحات الإسلامية)، و في نفس السياق إقترح عليه الحجاج أيضا سك العملة العربية الرسمية، لأنه حتى ذلك العصر، كانت الدولة تستخدم العملات الرومانية، و في بعض الأحيان، تعيد تشكيلها و مسح رسوماتها الرومانية و إعادة نقشها برسومات أخرى أقرب للسياق و الوضع السياسي و الديني الجديد، أي بمعنى آخر، لم تتحول اللهجة العربية القريشية التي كتب بها القرآن للغة قائمة بذاتها بقواعد نحو و صرف و إعراب، إلا نتيجة توفر إرادة سياسية تدعم الفكرة و تخرجها لأرض الواقع، لأنها تكمل مشهدا سياسيا و عسكريا و معرفيا أكثر تشعبا من الوضع القديم قبل ظهور الإسلام و تحوله من مجرد دين جديد إلى دولة قائمة بذاتها، و قد إنتهى تنصيب اللغة العربية كلغة رسمية للدولة على يد الفارسي سيبويه خلال القرن الثاني الهجري، الموافق للقرن الثامن الميلادي ( هو أول من وضع قواعد النحو و التنقيط في اللغة العربية بشكل منهجي و مفصل في كتابه الذي سمي “الكتاب” لأن سيبويه لم يضع له عنوانا )، أي أن الأمر قد أخذ ما يقارب 200 سنة لكي يتحقق، و هو ما حول اللغة العربية للغة رسمية للإمبراطورية السياسية و الدينية الجديدة التي فرضت نفسها على الأرض، و ظهور الإسلام وسط تجمعات عرقية و إثنية تتحدث هذه اللهجة، جعل الأمر أكثر منطقية في حينه، مثلما حدث في قصة إحياء اللغة العبرية الشبه ميتة و تنصيبها كلغة رسمية لدولة إسرائيل كقومية تعبر عن الإثنيات المرتبطة بالديانة اليهودية, لتعوض لغة اليديش Yiddish الألمانية التي كان يتحدث بها معظم يهود الأشكيناز في أوروبا، و قد نجحت التجربة و تم إحياء اللغة العبرية الاي كانت لغة دينية تستخدم لفراءة التوراة و صلوات التلمود فقط، و لم تكن المعجزة لتتحقق لولا وجود الإرادة السياسية أولا و المرتبطة بأدبيات الحركة الصهيونية خلال القرن التاسع عشر في أوروبا الشرقية.
و هو نفس ما تكرر مع اللغة الفرنسية مثلا بعد الثورة الفرنسية، فاللغة الفرنسية الرسمية ليست سوى لهجة سكان باريس و منطقة Île de France المحيطة بها و ليست لهجة منطقة جبال الألب، أو La Bretagne أو جبال Pyrénées أو ضفاف البحر الأبيض المتوسط، و قد تم تحويلها للغة رسمية للدولة، لأن الكيان السياسي الجديد الذي أنتجته الثورة الفرنسية بكل صراعاتها، قد تشكل في العاصمة باريس، و كل القرارات السياسية التي كانت تتخذ حينها و تطبق في كل أنحاء الدولة، كانت تصدر في العاصمة بلغة أهلها أولا، و ليس بأي لهجة من باقي لهجات المقاطعات الفرنسية الأخرى و لا باللاتينية مثلا التي كانت لغة دينية يمارسها رجال الدين و الإكليروس و جزء من النخب البورجوازية المثقفة حينها، بينما عامة الشعب يتحدث اللغة أو اللهجة العامية في تفاصيل حياته اليومية، و بالتالي كان من المنطقي جدا، أن يتم تكريس لهجة أهل باريس كلغة رسمية للدولة حينها، لأنه تصرف جد منطقي، و مبرر سياسيا و مدعوم بإرادة الحاكم السياسي، تماما مثلما حدث مع اللغة العربية التي رسخها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان.
و نفس القصة نجدها تتكرر مع اللغة الرسمية في الصين اليوم، و هي في الأصل لهجة المانداران Mandarin القديمة التي كانت في الأصل لهجة خاصة بمدينة بكين Beijing و المناطق المحيطة بها، و قد بدأ تحولها للغة رسمية كتعويض للهجة مدينة Nankin خلال فترة حكم أسرة كينغ (1644-1912)، خلال مسار طويل جدا إستمر لعدة قرون وصولا لعام 1956 حينما أصبحت هي اللغة الرسمية للدولة بكيانها السياسي الجديد.
لكل الأسباب التي ذكرتها أعلاه، تصبح هاته النزعة الغريبة لدى المغاربة و المتمثلة في احتقار اللغة الدارجة المغربية في مقابل اللغة العربية الفصحى، مجرد تنطع تافه لا ينبني على أي أساس منطقي و سببه الأساسي هو هالة القداسة الدينية الميتافيزيقية المفرطة التي يصر تجار الدين و الحركات السياسية التي تتحرك داخل المجال الديني على تكريسها بسلسلة طويلة لا تنتهي من القصص الخيالية و التدليس و الكذب.
مهدي بوعبيد
13/09/2018

التدخّلات القرآنيّة في الحياة الشخصية للنبي‎ محمد

الفصل بين c الإيمان و محمد التاريخ :
و إذ نرى أنّ القرآن نزل لتبرئة عائشة في حادثة الإفك بعد حدوثها بعدة أسابيع فإنّه لن يتوقّف عند ذلك الحدّ, فسيهتمّ القرآن أكثر بحياة النبيّ العائليّة – و قد كان من قبل مقلاّ في هذا الأمر – و سيركّز القرآن في تلك الفترة على علاقات النبيّ مع النساء, ممّا يجعل عائشة تقول للنبيّ : إنّ الله يسارع في هواك : ’’1’’ عن هشام عن عروة عن أبيه قال كانت خولة بنت حكيم من اللائى وهبن أنفسهن للنبي  فقالت عائشة أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت { ترجي من تشاء منهن } قلت يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك قال البخاري رواه أبو سعيد المؤدب ومحمد بن بشر وعبدة عن هشام عن أبيه عن عائشة يزيد بعضهم على بعض وفي حديث زكريا بن يحيى عن أبي أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله  وذكر نحوه وكذا في رواية أبي كريب عن أبي أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت وذكر نحوه وفيه فلما أنزل الله { ترجي من تشاء منهن } قالت قلت والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
و من ضمن هذه التدخّلات القرآنيّة هو زواجه من زينب بنت جحش.
و ذلك أنّ النبيّ ’’2’’ جاء بيت زيد يطلبه فلم يجده، فتقدمت إليه زينب، فأعرض عنها، فقالت له: هو ليس هنا يا رسول الله فادخل، فأبى أن يدخل وأعجبت زينب بنت جحش رسول الله، لأن الريح رفعت الستر فنظر إليها من غير قصد و هي تلبس ثوبا خفيفا فوقعت في نفسه، فرجع وهو يقول «سبحان مصرّف القلوب» وفي رواية أخرى «مقلب القلوب» وسمعته زينب يقول ذلك، فلما جاء زيد أخبرته الخبر، فجاء إليه وقال: يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها لك، فقال له رسول الله : أمسك عليك زوجك
لكنّ ابن كثير ’’3’’ يرويها بطريقة أخرى [ موردا رأيه في الرواية أعلاه] : وقد ذكر غير واحد من المفسرين، والفقهاء، وأهل التاريخ في سبب تزويجه إياها عليه السلام حديثاً ذكره أحمد بن حنبل في مسنده، تركنا إيراده قصداً لئلا يضعه من لا يفهم على غير موضعه. ثمّ يقول: ’’4’’
وقد تكلم كثير من السلف ها هنا بآثار غريبة، وبعضها فيه نظر، تركناها (…) ثم روى البيهقي: من طريق عفان، عن حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: جاء زيد يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمسك عليك أهلك)) فنزلت {وتخفي في نفسك ما الله مبديه}
ثم قال أخرجه البخاري: عن محمد بن عبد الرحيم، عن يعلى بن منصور، عن محمد مختصراً
لكن لماذا جاء زيد إلى النبيّ يشكو من زوجته زينب ؟
نعود إلى القصّة من البداية و قبل أن يتزوّج بها زيد أصلا:
ذهب النبيّ  ’’5’’ ليخطب فتاة لزيد بن حارثة فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها [ أي أنّ النبيّ أراد تزويج زينب لزيد ] قالت: لست بناكحته قال: بلى فانكحيه قالت: يا رسول الله أوامر في نفسي ,فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسول الله : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا (36) سورة الأحزاب,  وقالت: قد رضيته لي يا رسول الله منكحا قال: نعم قالت: اذن لا أعصي رسول الله قد أنكحته نفسي “
و كما نلاحظ فقد رفضت زينب منذ البداية الزواج من زيد, لأنّها خير منه حسبا :
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ” خطب رسول الله زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاستنكفت منه وقالت: أنا خير منه حسبا وكانت امرأة فيها حدة فأنزل الله وما كان لمؤمن ولا مؤمنة
و القرآن تدخّل مرّتين في أمرها: مرّة في تزويجها من زيد و مرّة في تطليقها منه و تزويجها من النبيّ!
لذلك فإنّها كانت – و على ما يبدو – تطمع في الزواج من النبيّ, فليس من الغريب أن تكون قد أثارته تعمّدا منها و هو ما حدث فعلا, بل و أخبرت زيدا بذلك, و ربّما فكّر زيد في حاله فهو في الأخير كان مملوكا للنبيّ و لا يستطيع أن يخالف أمر سيّده [ خاصّة أنّ القرآن تدخّل و إذا رفض زيد فهو لا يعصي النبيّ فقط بل و يعصي الله, ثمّ إنّ زوجته لا تريده]
و العجيب في الأمر هو أنّ النبيّ أرسل زيدا نفسه ليخطب له زينب! : ’’7’’ وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم – يعني ابن القاسم – حدثنا النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال النبي لزيد: «اذهب فاذكرها علي». [ أي اذهب و اخطبها لي ].
فانطلق حتى أتاها، وهي تخمر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، إن رسول الله ذكرها، فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، وقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله بذكرك،[ يقول لها أبشري, فإمّا أنّه مؤمن إيمانا قاطعا أنّ النبيّ لا يتصرّف من نفسه و أنّ الله هو الذي أمر بذلك, و الله أعلم و أحكم منه حتّى و إن كان الأمر يمسّ زوجته, و إمّا أنّه لم يرد إغضاب النبيّ و هو سيّد نعمته و قال في نفسه أنّ النساء غيرها كثير, كما أنّ القرآن ذكّره بقدره الحقيقيّ حين قال: (واذ تقول للذي انعم الله عليه وانعمت عليه  ) ] قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي عز وجل.
و قام النبيّ بعدها بإعداد وليمة ثمّ دخل بزينب دون عقد زواج, تقول زينب: ’’8’’  فلما انقضت عدّتي لم أشعر إلا والنبي [دخل عليّ ] وأنا مكشوفة الشعر فقلت: هذا أمر من السماء دخلتَ يا رسول الله بلا خطبة ولا شهادة, قال: الله المزوّج وجبريل الشاهد.
و يلخّص لنا السيوطي القصّة: ’’9’’
وأخرج الطبراني والبيهقي في سننه وابن عساكر من طريق الكميت بن يزيد الأسدي قال: حدثني مذكور مولى زينب بنت جحش قالت ” خطبني عدّة من أصحاب النبي  فأرسلت اليه أخي يشاوره في ذلك [أي من الذي يريد الزواج من زينب؟ ] قال [ أي النبيّ ]: زيد بن حارثة ,فغضبتْ وقالتْ: تزوّج بنتَ عمّتك مولاك ؟ ثم أتتني فأخبرتني بذلك فقلت: أشدّ من قولها وغضبتُ أشدّ من غضبها, فأنزل الله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم, فأرسلتُ اليه زوّجني من شئت, فزوّجني منه فأخذته بلساني [أي أنّ زينب حين تزوّجت من زيد قامت بتعييره  و أنّها خير منه] فشكاني إلى النبي  فقال له: اذن طلّقها, [ في البداية قال له أمسك عليك زوجك, و لكنّ السيوطي يختصر القصّة هنا, و ربّما اكتشف النبيّ أنّه أخطأ من تزويح زيد من زينب,حيث أنّها لا تريده أبدا, و لكنّ المشكل أنّه انزل فيهما قرآنا و بالتالي و لكي يطلّقهما أنزل أيضا قرآنا ]  فطلّقني فبتّ طلاقي, فلما انقضت عدّتي لم أشعر إلا والنبي  وأنا مكشوفة الشعر فقلت: هذا أمر من السماء دخلت يا رسول الله بلا خطبة ولا شهادة قال: الله المزوّج وجبريل الشاهد .
فالله و جبريل يتابعان هذه القصّة منذ البداية, و القرآن يقوم بالتوثيق, و المسلمون – فيما بعد – يقرؤونها في صلواتهم و يتعبّدون بها .. !!
 *****************************************************************************
الرجل و بكل بساطة أعجب بزوجة إبنه بالتبني بعدما راقه ما رأى منها، فعمد إلى فعل ما فعل و إخراج ما أخرج من الآيات التي تخول له الوصول إلى مبتغاه دون أن تلحق به سبة الدهر، و تم التلاعب بالأمر عبر جعل الهدف الإلهي الأسمى هو إزالة الحرج على الرجال في تزوج مطلقات أولادهم بالتبني، و إنتهى الأمر بتحريم التبني في الإسلام بشكل نهائي.
المشكلة الكبرى هنا، هي أن الأمر به من الشبهات و الريبة ما يطعن في مسألة النبوة بأكملها، فالله من فوق سبع سموات يترك كل شيء و يتدخل في الحياة الشخصية البحتة للنبي و في مشاعره و ينزل جبريل بالوحي الإلهي لكي يصرح بما أخفاه الرجل في صدره و يمنحه تصريحا سماويا ليتزوج بطليقة إبنه بالتبني، و الأدهي من كل هذا هو أنه يبعث بزيد ليخطب له طليقته، ثم تقبل المرأة لكون زواجها من النبي قد أصبح أمراً إلهيا و لم يعد بإمكانها و هي المؤمنة أن ترفض أو تجادل في أمر قرره الله من فوق سبع سموات و أنزل فيه آيات بينات من الوحي، لتنقضي بعد ذلك عدتها فيدخل بها دون خطبة و لا شهادة، و يعلل ذلك بكون الله هو المزوج و جبريل هو الشاهد، و يقال أن زينب نفسها فيما بعد كانت تتباهى على باقي زوجات النبي بقولها : “كلكن زوجكن أولياءكن، أما أنا فزواجي ثم طلاقي ثم زواجي من النبي كان بأمر من الله و وحي من ملاكه جبريل” … !!!
لست كيف تظهر المسالة بالنسبة لكم، لكن فيما يخصني أنا أرى فيها دعوة صريحة ﻹعادة النظر في أمر النبوة و الوحي من الأساس … !!!
المصادر :
1-الجمع بين الصحيحين للحميدي/الجزء الخامس
2-السيرة الحلبيّة / برهان الدين الحلبي/غزوة بحران و راجع الكامل في التاريخ/ ابن الأثير/الجزء الأوّل
3-البداية و النهاية / ابن كثير/الجزء الرابع
4-المصدر السابق
5-الدرّ المنثور/السيوطي/سورة الأحزاب
6-المصدر السابق
7-البداية و النهاية/ابن كثير/الجزء الرابع
8-الدرّ المنثور/السيوطي/سورة الأحزاب
9-المصدر السابق

مهدي بوعبيد

19/072018

معادلة التخلف في المجتمعات المتدينة : التوحد مع الإله و غياب الوعي‎‎

من فرط إرتباطه الدائم و هوسه بالجانب الميتافيزيقي من الوجود يعاني الإنسان المتدين من حالة عميقة و متقدمة من الإنفصال التام عن الواقع بكل مكوناته، فهو متوحد بشكل كلي و مستمر مع الآلهة رغم أنها في واقع الأمر مفارقة له بل غائبة تماما عن المشهد لكونها آلهة تتحرك داخل عالم الغيب المجهول تماما بالنسبة له، و هو ما يجهل الإنسان كنهه عاجة يكون دائما مصدر خوف و ترقب دائم بالنسبة له؛ بينما في نفس الوقت، نراه يستدعيها في كل أفعاله و حركاته و قراراته و تفكيره طيلة الوقت، بل و يضعها كشرط ضمني حاضر يرتكز عليه في كل ما يحدث من حوله.
الفلاح المتدين مثلا سوف يعتقد دوما بأن حضور أو غياب المطر مرتبط بمدى رضى الآلهة عنه و عن المجتمع الذي يعيش فيه، و بالنسبة له فكل ما إبتعد هو أو هذا المجتمع عن الطريق الذي تفرضه الآلهة و تعتبره طريقا “قويما” لا يجب الحياد عنه، فسوف يجلب عليه ذلك غضب الآلهة التي سوف تعاقبه بمنع المطر عن أرضه و زراعته. و داخل هذا الميكانيزم المرتبط مرضيا بعالم الغيب يغيب المنطق تماما و يغيب الوعي الوعي كليا، فعقل الفلاح هنا لا يرى الواقع و لا مكوناته و لا تفاصيله الدقيقة و لا يعتمد عليها لفهم سبب غياب المطر، هل هو جفاف أم تغيير مناخي عابر، و هل يمكنه تجاوز هذا العائق بوسائل أخرى تمكنه من تعويض المطر، و لذلك يلجأ إلى الميكانيزمات الميتافيزيقية التي يمارسها دائما و يعرفها جيدا و يثق بقدرتها على التغيير الإيجابي الذي يسعى إليه، رغم كونها لا تغير شيئا على أرض الواقع، و رد فعله قد يختلف هنا فهو قد يكتفي بأن يمارس طقوسه التعبدية في شكل بسيط من أشكال الإرتباط بالعالم الغيبي الذي يعتقد بأنه هو القادر على تغيير الواقع الذي يعجز عن التعامل مع تفاصيله، أو قد يكون رد فعله أكثر راديكالية فيلجأ لمحاولة تغيير هذا الواقع بالقوة لكي يوافق معتقده الغيبي طمعا في إرضاء الآلهة، و هذه الجزئية نعرفها نحن جيدا في العالم الإسلامي، لكونها هي المؤسس الحقيقي لظهور ما يسمى بالفاشية الإسلامية التي تفرض نفسها على كافة مكونات المجتمع، و هذا راجع لكون الأسلام يقدم نفسه كحقيقة واحدة نهائية و مطلقة لا شيء يسبقها أو يأتي بعدها من السماء، و بذلك تمتلك هذه الحقيقة المشروعية الإلهية لإلغاء كل ما و من يختلف معها أيا كان وضعه .
و لنا أن نتخيل هنا مدى التأثير السلبي لهذا التوحد مع الإله و الإنفصال عن الواقع الذي ينتج عنه، فلديك هنا مجتمع منفصل تماما عن وضعه الحقيقي يكل مأساويته و بالتالي فوعيه أيضا غائب تماما ما دام لا يحتكم لتفاصيل و مكونات هذا الواقع، إذن على المستوى الحضاري سوف يكون عاجزا عن مواجهة كافة الصعوبات و التحديات التي تواجهها الشعوب و المجتمعات عبر التاريخ، فهو لا يرى فيها صعوبات يفرضها عليه الواقع الذي يتحرك داخله، بل غضبا إلهيا راجعا لحياده عن الطريق “القويم” أو إمتحانا لمدى إيمانه بهاته الآلهة التي أخبرته في أدبياتها بأن المعاناة التي يتعرض لها هي إمتحان فعلي من الإله الذي يريد أن يتيقن من مدى صلابة إيمان البشر به، و هذا في حد ذاته سلوك بشري نزق و طفولي يعبر عن الأنانية أكثر مما يعبر عن الألوهية. و بالتالي فلن يسعى أبدا لإستخدام عقله و مهاراته و ملكاته لمواجهة هذه الصعوبات و محاولة تغييرها أو التغلب عليها، بل سيضع كل هذا جانبا و يتجه لأقرب معبد او مسجد أو كنيسة لكي يناجي آلهته و يتذلل و يتضرع إليها لترفع عنه “البلاء”، أو يلجأ لفرض حقيقته “المطلقة” على الآخرين بالقوة لأنهم قد حادوا عن طريق الهداية و الإيمان الحق، إما برفض ممارسة تلك الطقوس التعبدية أو عدم الإمتثال لتعاليم و تشريعات الآلهة، و هذا ما يشكل لدى الإنسان المؤمن تلك القناعة الثابتة بمفهوم الإصطفاء، حين تحوله الآلهة لأداة من أدوات فرض إرادتها على البشر، و تأمره و تحرضه على تغيير المنكر، بل تنجح في إقناعه بأن هذا التكليف هو من صميم الإيمان الذي لا يكتمل بدونه، و هنا نجد الإنسان المتدين يتحول لرقيب على المجتمع الذي يسعى لتحويله إلى نسخة “قويمة” ترضي الآلهة حسب رؤيته الميتافيزيقية للعالم و الوجود بكل مكوناته، و هنا سوف يصطدم مع عامل آخر يفرض نفسه بقوة داخل أي جماعة بشرية أيا كان شكلها، و هو الإختلاف كمعطى أساسي لدى الإنسان ككائن حي.
فالبشر كلهم يسعون غريزيا نحو الإختلاف عن بعضهم البعض في عدة جوانب، و هذا في حد ذاته رد فعل طبيعي على سلطة المجتمع سواء كان ممثلا في العائلة أو القبيلة أو الحي أو المدينة أو حتى البلد الذي يعيش فيه، و أية محاولة لإلغاء هذا الحق في الإختلاف أو قمعه و منعه و طرده من المشهد العام عادة ما تنتهي إلى مواجهات عنيفة و صدامات قد تتطور بسرعة لتتحول لحروب و صراعات دامية، ﻷن محاولة إلغاء حق الإختلاف هي قمع لحرية غريزية لدى البشر، و عادة ما تكون النتيجة المباشرة إما دولا و مجتمعات مفككة يقاتل بعضها بعضا في إطار حروب أهلية، أو دولا فاشلة و عاجزة عن التطور و الإرتقاء لما هو أفضل على كافة المستويات سواء كانت حضارية أو إجتماعية أو سياسية أو إقتصادية، لكونها منشغلة بصراعات تافهة تبحث عن مواطن الإختلاف و تحاول قمعها عوض البحث عن نقاط الإلتقاء التي توحد المجتمع في إتجاه واحد يعود بالنفع الإيجابي على أفراده، و بالتالي فهي مجتمعات تبقى متكلسة في مكانها و لا تنتج شيئا ذا قيمة، و تكتفي بإستهلاك ما ينتجه الآخرون بينما تتقاتل لفرض رؤية ميتافيزيقية غيبية و سخيفة على الجميع حتى أولئك الذين لا يؤمنون بهذه الرؤية و يرفضونها، لأنها تؤمن ضمنيا بأن ما تريده الآلهة للبشر هو ما يصح بالضرورة، و على الجميع الإمتثال له حتى بالقوة دون أن تأخذ بعين الإعتبار تلك الحقائق القاسية التي يفرضها واقع عالمي يتغير و يتطور بسرعة متزايدة كل يوم.
كل ما سبق أعلاه يفسر لنا أساس الصراع المشروع مع سلطة الميتافيزيقا الدينية اليوم، فهي باطلة لأنها أولا غائبة عن الواقع و منفصلة عنه تماما، و ثانيا هذا الإنفصال ينتج وعيا مغيبا ة عاجزا عن التعامل مع العالم، و بالتالي فهذا النوع من المجتمعات محكوم عليه بالتخلف و التأخر في كل شيء مهما حاول إدعاء العكس.
مهدي بوعبيد
18/07/2018

هل كانت عداوة محمد ليهود المدينة دينية فعلا أم سياسية .. ؟؟!!‎

مما يذكر في سيرة إبن هشام و السيرة الحلبية عن بيعة الأنصار للنبي محمد يوم العقبة الأولى و العقبة الثانية، أن الأصل في بيعة الأنصار هما قبيلتا الأوس و الخزرج بيثرب و هاتان القبيلتان كانتا في حرب دائمة فيما بينهما و في نفس الوقت كانت كل واحدة منهما متحالفة مع يهود المدينة من بني قريضة و بني النضير سواء بالتجارة أو بالمال أو لحاجة الأوس و الخزرج الدائمة للسلاح و يهود المدينة كانت لهم سيطرة شبه مطلقة على تصنيع و تجارة السلاح في يثرب آنذاك، و قد كان شر الحرب بين القبيلتين- و التي دامت أكثر من مائة سنة – يطال اليهود في كل معركة تشتعل بينهما، فكل مواجهة عسكرية ترتد ضد القبيلة المهاجمة و حلفاءها أو من يرتبطون معها بتجارة أو سلاح، مما جعل يهود المدينة الذين كانوا يعيشون حالة ضعف سياسي دائم و هم تحت سطوة القبائل العربية حينها يقولون و يرددون : ” هذا زمان نبي قد أطل و إقترب ظهوره بين الناس، و إن كان كذلك لنتبعنه فنقتلكم معه قتل عاد و إرم “.
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يتلقى الوحي من جبريل في غار حراء.
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يتلقى الوحي من جبريل في غار حراء.
 و قد بقي النبي يومها زمنا طويلا يذهب لمواسم القبائل في الجزيرة العربية يعرض عليها نفسه و يدعوهم لحمايته و نصرة دعوته بين العرب و التحالف معه ضد قريش و هو الملاحق من زعماء مكة و أعيانها بكل قدراتهم المالية و السياسية و حتى العسكرية، و لما حدث أن دعا بعضا من أعيان الأوس و الخزرج لنفس الشأن، تذكر هؤلاء حديث اليهود عن ظهور نبي جديد، فقالوا هذا هو الذي توعدنا به اليهود فلننتهز هذه الفرصة و نبادرهم و نسبقهم إليه فننصره و نقتلهم به قبل أن يسبقونا إليه فيقتلونا به، فصدقوه و بايعوه في يوم العقبة الثانية على النصرة و الحرب و القتال.
و بما أن عداوة الأوس و الخزرج لليهود قد بقيت قائمة حتى بعد هجرة الرسول للمدينة، فقد صار محمد هو الآخر عدوا لهم بحكم بيعتهم له في يوم العقبة الثانية، و هذا ما يؤكد أن عداوة محمد لليهود و عداوتهم له قد بدأت فعليا في هذا اليوم، و بعد أن كان يذكرهم في القرآن من قبل في الآيات المكية بالخير و المديح هم و أنبياؤهم كأهل كتاب يؤمنون بالله، ثم بعد بيعة الأنصار له و هجرته ليثرب أعمل فيهم القتل و الغزو و السلب و النهب و التهجير حتى أفناهم و أنهى وجودهم في المدينة و ما حولها، مما يجعل ذلك نتيجة منطقية و ضرورية لنصرة أعداء اليهود للرسول و إجتماعهم على أمره في تحالف مصالح واضح.
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يلقي خطبة حجة الوداع
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يلقي خطبة حجة الوداع
ما سبق هو قراءة بتصرف شديد لما ترويه كتب السير عن بيعة الأنصار و هم قبيلتي الأوس و الخزرج لمحمد، و ما نتج عن بعد ذلك من إفناء ليهود المدينة سواء بالقتل أو التهجير و الطرد من بيوتهم و أراضيهم.
الكثيرون من بيننا يقرأون هاته الأحداث قراءة دينية محضة داخل إطار يقدس كل ما يحكى عن دعوة محمد بشكل مفرط و مبالغ فيه، و من الطبيعي أن تغيب عنها الرؤية السياسية التي تبين أن الأمر كان سياسياً بالدرجة الأولى قبل أن يكون دعوة لدين جديد.
مهدي بوعبيد
16/07/2018

الإيمان بالله بين الفطرة و إغراء الجنس الأبدي

ترى كم شخصا كان ليتبع محمد في دعوته لدين جديد، لو لم يكن وصف الجنة و النار بتلك الدقة الغرافيكية المبالغ فيها في آيات القرآن و في الأحاديث.. ؟؟!!
إن ذلك الإصرار العجيب على وصف الملذات الحسية في الجنة مثلا مع التركيز المفرط على الجانب الجنسي من قبيل :
– وصف حجم و شكل أثداء النساء.
– ذكرعدد الحور العين، و طريقة جلوسهن في الخيام و القصور إستعدادا للقاء المؤمن.
– وصف مدة اللقاء الجنسي الواحد الذي يدوم عشرات السنين دون كلل و لا ملل.
-الإصرار على مسألة العذرية التي لا تفنى و تذهب ثم تعود من جديد بشكل إعجازي.
– وصف المؤمنين و هم في شغلهم فاكهون (أجمع فقهاء التفسير على أن هذا الشغل هو فض بكارة الحور العين بدون إنقطاع).
– وصف الذكر الذي لا ينثني (لا يفقد إنتصابه)، رغم ان الممارسة الجنسية و عدد الشريكات غير محدود.
– وصف الغلمان المخلدين الذين يطوفون بكؤوس الخمر و الشراب على المؤمنين و هم ممدين على الارائك. (و هي إحالة بيدوفيلية لا ينكرها إلا جاهل أو مدلس).
لوحة للرسام الفرنسي Jean-Baptiste Achille Zo الذي عاش خلال القرن التاسع عشر, و تمثل تصورا للجنة كما يراها المسلم من خلال وصف القرآن للملذات الحسية التي سوف يكافأ بها المؤمنون بعد البعث و الحساب.
لوحة للرسام الفرنسي Jean-Baptiste Achille Zo الذي عاش خلال القرن التاسع عشر, و تمثل تصورا للجنة كما يراها المسلم من خلال وصف القرآن للملذات الحسية التي سوف يكافأ بها المؤمنون بعد البعث و الحساب.
إن هذه الإلحاح في الوصف بأدق التفاصيل، يضرب روح الإيمان المطلق الفطري في مقتل، فلو كان هذا الدين وليد الفطرة كما يتحدث بذلك محمد نفسه، لما كانت هناك حاجة لكل هذا الوصف الدقيق للملذات الجسدية التي يعد بها الله كل من يؤمن به و يتبع دين محمد، و لو أضفت لكل ما سبق كمية الوصف الدقيق للعذاب السادي المتوحش التي ينتظر كل من كفر بدعوة محمد في جهنم، سوف تتأكد لك مدى بشرية النصوص المقدسة التي بتي عليها الإسلام، إذ أن التحليل المنطقي المتجرد لآيات القرآن و أحاديث نبيه، يضعك أمام لا يمكنك تجاهلها، و هي أن هذه النصوص قد كتبت بيد بشر يعي تماما كمية الحرمان الجسدي الذي يعانيه المجتمع الذي ظهرت فيه الدعوة لهذا الدين، مجتمع يعيش في أرض صحراوية جافة و جرداء، لا ينبت فيها زرع و لا نبات، بالإضافة إلى كون الأنثى في شبه الجزيرة العربية آنذاك هي مطمع طبيعي بين الرجال، سواء بالغزو و السلب و النهب و سبي النساء و الأطفال بين القبائل البدوية أو بالعبودية و الاسترقاق، و هي عادة درج عليها العرب قديما، حيث كانت النسوة يختطفن من مضارب القبائل ليتم بيعهن في أسواق النخاسة في كبريات المدن آنذاك، و لهذا نجده يمعن في الوصف الدقيق لكل الملذات الحسية التي تغري الناس بإتباع الرجل في دعوته. ثم كيف لهذا الإله العجيب أن يمعنةفي الذكورية إلى الحد الذي نجده يلغي به المرأة تماما من الحياة الآخرة بعد البعث و الحساب، ليحولها إلى مجرد دمية جنسية لا تتحدث أو تتحرك إلا لإشباع الرجل أبد الآبدين، كيف تتحول الأم و الأخت و الزوجة فجأة في الحياة الأخرى إلى أداة لتحقيق اللذة المفرطة و المبالغ فيها فقط، و كأنها لم تخلق لغير ذلك.
إن مثل هذه التفاصيل الصغيرة بين ثنايا السور و الآيات تلغي ذلك الجانب الإعجازي الذي يتبجح به كاتب القرآن، فنحن نجد أنفسنا أمام نصوص كتبت عمدا لتداعب الخيالات و الإستيهامات الجنسية الهائجة اقوم يعيشون حالة من الحرمان تمتد لأغلب الملذات الحسية و الجسدية المعروفة بين البشر، و هذا في حد ذاته يدمر تلك القيمة الروحية للإيمان آلهة خلقت الكون كله بكل تفاصيله، لكنها في المحصلة تجد نفسها مجبرة على استخدام أسلوب العصا و الجزرة، حين تعد أتباعها بالحصول على نساء بجمال مغري لا يبلى و لا يذوب، مقرون بأوضاع جنسية تكاد تقترب من مشاهد الأفلام الإباحية، حين تصف المؤمن و هو جالس في خيمته يمارس الجنس بلا إنقطاع و لا تعب، مع نسوة لا يتعبن لا من الجنس و لا من التغنج الماجن حبا في المؤمن.
إن هذا الإصرار يقع في تناقض صادم مع مفهوم البوصلة الأخلاقية المتعصبة التي يطرحها الإسلام في الحياة الطبيعية، ففي الوقت الذي نجد فيه النصوص المقدسة للدين تمعن في احتقار و معاداة المرأة، مع تلك الرغبة المتعصبة في إخفائها و دفنها تحت أطنان من الثوب المغلف بآلاف التحذيرات المتطرفة و الدعوة لتغطية و تورية أي شيء قد يظهر من جسد المرأة و لو بالصدفة و يثير فتنة المؤمنين القانتين، نجد القرآن و أحاديث محمد و مروياته تمعن في تشييء المرأة و هي تحولها لمجرد مكافأة جنسية سماوية يمنحها الله لعباده المتقين لكي يتمتعوا بجسدها صباح مساء أبد الدهر.  .هذا التناقض يبين أن نفسية كاتب هذه النصوص بعيدة كل البعد عن كل ما هو سوي، اجتماعيا على الأقل.
إن جنة المسلم هي أكثر شيء إثارة للضحك في أدبيات الإسلام، فهي مجرد ترجمة فعلية لكل ذلك الكبت و الحرمان الذي عاشه سكان صحاري شبه الجزيرة العربية آنذاك، و قد تكون هاته الترجمة مغرية بالإتباع في تلك العصور الغابرة، لكنها بمفاهيم اليوم و العصر الحالي، لم تعد تغري أحدا، غير ضعاف العقول و المهووسين جنسيا، فلا أظن أن هناك شخصا سويا واحدا يحلم بممارسة جنسية واحدة تدوم لسبعين سنة، أو لحياة أبدية يقضيها متنقلا بين الخيام و بين أفخاذ الحور العين، مهما بلغ جمالهن .. !!!
مهدي بوعبيد
25/06/2018

الجزية و بشرية القرآن (الجزء الأول)

لا يستطيع أحد إنكار هالة القداسة الضخمة التي تحيط بالقرآن ككتاب يقدسه مئات الملايين من المسلمين منذ أكثر من 1400 سنة، و هي قداسة لن نحاول الدخول في أسبابها و تفاصيلها التي لا تخفى على الباحثين المتخصصين، لكن عندما تتوفر الجرأة و الإرادة للتعامل مع النص بتجرد و موضوعية، لا تملك إلا أن تعترف بأن الكثير من آياته تفقد هالة القداسة تلك، فالقراءة المتجردة تضعك أمام كلمات و جمل تحمل الكثير من المعاني التي تجعلها أقرب للمنطق البشري أكثر من قربها للمفهوم الإلهي، ذلك المفهوم الذي من المفترض أنه منزه عن كل ما يرتبط بالحاجات الدنيوية التافهة.

الآية 29 من سورة التوبة, القانون المشرع و المنظم لمفهوم الجزية
الآية 29 من سورة التوبة, القانون المشرع و المنظم لمفهوم الجزية

لنأخذ على سبيل المثال ما يسمى بآية الجزية، إنها الآية 28 و 29 من سورة التوبة، و هي تقول :

” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) “

الآية الأولى تتضمن أمرا واضحا بطرد المشركين من أرض المسجد الحرام و منعهم من دخولها، و كلنا نعلم أن التأثير المباشر لهكذا أمر هو توقف قوافل التجارة عن دخول مكة كما كانت تفعل قبل ظهور الإسلام، مع ما ينتج عن ذلك من أزمة إقتصادية تؤثر على معيشة الناس بعد إنحسار التجارة القادمة من باقي مدن و حواضر الجزيرة العربية التي لم تدخل الإسلام بعد و بالتالي ما زالت في معظمها على الوثنية التي يسميها الإسلام شركا، و لهذا نجد بقية الآية تتحدث عن كون الله سوف يغني المسلمين إن هم خافوا “العيلة” أي الفقر و الفاقة بانقطاع تجارة المشركين عنهم. ثم يستمر الأمر المباشر في الآية التي تليها، فنجد الله يأمر المسلمين بقتال الذين لا يؤمنون بمجموعة من الأحكام التي يحددها في الإيمان بالله و اليوم الآخر بما يستتبعه من حساب و عقاب و ثواب، و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله، و لا يدينون بالدين الحق، أي الإسلام، ثم ينهي الأمر بتحديد المعنيين به و هم الذين أوتوا الكتاب، أي اليهود والنصارَى، و إختيار كلمة الإتيان هنا ليس عشوائيا، فهو كناية عن كون الله قد حدد و بين لهم هذه الأحكام و الشرائع في الكتب التي أنزلها عليهم من قبل، أي التوراة و الإنجيل، لكنهم إستكبروا و عاندوا و جحدوا الحق اﻹلهي و خاصة ما يقوله محمد من أن إسمه و رسالته و أمته مذكورون في ما سبق عندهم من الكتب المقدسة، و هذا ما يثبت عليهم الحجة في الكفر و الإنكار و يوضح جريمتهم التي جعلت الله يأمر المسلمين بقتالهم في القرآن.

دفع الجزية يجب أن يتم على حالة من الذلة و الصغار.
دفع الجزية يجب أن يتم على حالة من الذلة و الصغار.

لكن نهاية الآية الثانية هنا تضعنا أمام غاية أخرى ترتبط بالأمر الأول، فمنع المشركين من دخول الأراضي المقدسة عند المسلمين سوف يمنع عنهم سبل التجارة مما سوف يتسبب بفقرهم، و غاية الأمر بالقتال في الآية الثانية هي تنفيذ للوعد الإلهي السابق ذكره بالتعويض عن الفقر و الحاجة، فنجد الأمر بالقتال ينتهي بفرض الجزية على أهل الكتاب، كخيار ثاني إلى جانب المواجهة و السيف، و لا تكتفي الآية بطرح الجزية فحسب بل توضح حتى الوضع الذي يجب تأديتها عليه فتشترط الدفع الذي يترافق مع الذلة و الصغار، و هي قمة المهانة بالنسبة لأهل الكتاب، و ذلك في صورة واضحة من صور العقاب الدنيوي الذي فرضه الله عليهم لكونهم رفضوا نبوة محمد و كفروا بدعوته و كتابه و أحكامه.

طيب ما هي الجزية إذن : ذكر الرزاي أيضا في تفسيره للآية 29 من سورة التوبة : ” الجزية هي ما يعطي المعاهد على عهده، وهي فعلة من جزى يجزى إذا قضى ما عليه ” أي أنها قدر من  المال يدفعه الكتابي لإمام المسلمين، وهي فعلة من الجزاء كأنها جزت عن قتله، و لهذا يسمى دافع الجزية بالذمي فالقدر الذي يدفعه من المال هو ما يحفظ له حقه في الحياة و هو رافض لشريعة محمد و دينه و متى رفض دفعه يصبح دمه و ماله و عرضه و كل ما يملكه حلال للمسلمين، فالعهد هنا قائم بدفع الجزية و ليس بمفهوم التسامح و القبول بالآخر رغم إختلاف معتقده الديني. لكن ما يثير الحيرة في هذه المسألة هو كوننا أمام نص يفترض أنه إلهي، مقدس و منزل من اللوح المحفوظ من فوق سبع سماوات، فهذا الحكم ليس إجتهاد فقهاء و لا إجماع علماء بل هو كلام الله المرسل إلى نبيه، نعم الله خالق كل شيء الكون و الأرض و السبع سماوات، الله مطلق القوة و الرحمة و العلم بكل شيء، بما كان و سيكون، لكنه مع ذلك يفرض على البشر الذين خلقهم و أرسل لهم أنبياء و رسل بأديان سماوية مختلفة، أن يختاروا بين ثلاث، ترك دينهم و إتباع دين جديد جاء به رجل من أعماق الصحراء يقول بأنه نبي مرسل بالدين الحق، أي النسخة النهائية و الوحيدة التي قرر أن تتبعها البشرية كلها بدون إستثناء، أو أن يواجهوا القتال و السيف مع ما يتبع ذلك من قتل و نهب للأموال و الأملاك و سبي للنساء و الذرية، أو أن يدفعوا الجزية لكي يحتفظوا بحياتهم و القليل جدا من كرامتهم، و هنا يصعب جدا على على العقل أن يتقبل أن خالق الكون الذي إرتضى للناس دينا جديدا لن يقبل منهم غيره يوم القيامة، يفضل أن يتركهم على أديانهم الباطلة كما هم و يأمر نبيه و أتباعه بأن يأخذوا منهم مالا عوضا عن ذلك، أي إله هذا الذي يقبل تعويضا ماديا عن الإيمان به و بسلطته المطلقة على مخلوقاته، أي إله هذا الذي يشرع إتاوة على البشر لقاء حقهم في الحياة التي منحها لهم، أي إله هذا الذي يشرع أحكاما دينية هي أقرب لمعاملات المافيا منها لتلك القداسة الإلهية التي يفترضها الدين بمفاهيم مثل التوحيد و التسليم و الرضى بقضاء و قدر الخالق مطلق القوة و الرحمة و العلم … ؟؟!!!!

لائحة بالغزوات و المعارك التي سيرها النبي محمد.
لائحة بالغزوات و المعارك التي سيرها النبي محمد.

لكن مهلا، لنأخذ القصة من جانب آخر أكثر واقعية و موضوعية، بل لنأخذ النص على حقيقته كما هو، لا كما يراه المؤمنون، فقد منع المشركون من دخول مكة و المدينة، و كما قلنا قبل ذلك فهذا يعني وضعا جديدا تنقطع فيه قوافل التجارة و سبل البيع و الشراء، مع ما يعنيه ذلك من فقر و فاقة، و النص هنا ليس إلا تأسيسا لوضع إقتصادي جديد يسمح للمسلمين بالحصول على مصادر دخل جديدة تعوضهم عما فقدوه بإنقطاع قوافل التجارة عن مدنهم، و هذا المصدر ليس إلا إتباعا لسنة القبائل العربية التي دأبت عليها من قبل ظهور الإسلام، و هي الغزو و ما يرافقه عادة من سبي و سلب و نهب في حق المنهزمين، و الفارق الوحيد هنا هو أن المسلمين قد بات من حقهم حتى بعد الغزو و الغنيمة، أن يفرضوا إتاوة أبدية و دائمة على هؤلاء المنهزمين؛ بشرعية إلهية مطلقة، هو إذن نهب و سلب منظم و مشروع دينيا، لا يعاقب الله عليه، بل يأمر به و يحض عليه المؤمنين و يصرح لهم به على أنه حلال لا شبهة حوله.

و قد تلى نزول هذه الآية مباشرة غزوة تبوك في رجب من العام 9 للهجرة، و هي آخر الغزوات التي خاضها محمد قبل وفاته، حيث هاجم أراض تقع تحت سلطة الإمبراطورية البيزنطية في شمال الجزيرة العربية، و مع أن المعركة النهائية لم تقع فعليا، فقد كان الدافع الرئيسي وراءها هو الحصول على مداخيل مادية في عام من القحط و الجذب الذي أصاب الجزيرة العربية و ترافق مع فقر شديد عجز معه الرسول عن جمع ما يكفي من المال لتجهيز جيشه بما يلزمه من سلاح و دواب و مؤن. و يقول  ابن كثير في تفسيره : «أن الله سبحانه لما أنزل قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا”، قالت قريش ، كما ورد عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم، وكان ذلك بعد فتح مكة: “لينقطعن عنا المتاجر والأسواق أيام الحج، وليذهبن ما كنا نصيب منها، فعوضهم الله عن ذلك، بالأمر بقتال أهل الكتاب، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.» ويرى ابن كثير أن سبب الغزوة هو استجابة طبيعية لفريضة الجهاد؛ ولذلك عزم الرسول محمد قتال الروم؛ لأنهم أقرب الناس إليه، جاء في سورة التوبة: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ  “.

و قد إختاف العلماء في تحديد مقدار الجزية لأن النص لم يحدده، و يقول القرطبي في تفسيره :

” لم يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه مقدارا للجزية المأخوذة منهم. وقد اختلف العلماء في مقدار الجزية المأخوذة منهم، فقال عطاء بن أبي رباح: لا توقيت فيها، وإنما هو على ما صولحوا عليه. وكذلك قال يحيى بن آدم وأبو عبيد والطبري، إلا أن الطبري قال: أقله دينار وأكثره لا حد له. واحتجوا بما رواه أهل الصحيح عن عمرو بن عوف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين على الجزية. وقال الشافعي: دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء واحتج بما رواه أبو داود وغيره عن معاذ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا في الجزية. قال الشافعي: وهو المبين عن الله تعالى مراده. وهو قول أبي ثور. قال الشافعي: وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز، وإن زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم. وإن صولحوا على ضيافة ثلاثة أيام جاز، إذا كانت الضيافة معلومة في الخبز والشعير والتبن والإدام، وذكر ما على الوسط من ذلك وما على الموسر وذكر موضع النزول والكن من البرد والحر. وقال مالك فيما رواه عنه ابن القاسم وأشهب ومحمد بن الحارث بن زنجويه: إنها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق، الغني والفقير سواء ولو كان مجوسيا. لا يزاد ولا ينقص على ما فرض عمر لا يؤخذ منهم غيره. وقد قيل: إن الضعيف يخفف عنه بقدر ما يراه الامام. وقال ابن القاسم: لا ينقص من فرض عمر لعسر ولا يزاد عليه لغنى. قال أبو عمر: ويؤخذ من فقرائهم بقدر ما يحتملون ولو درهما. وإلى هذا رجع مالك.”

و في تفسيرات أخرى تكون الجزية على نوعين إما صلحية أو عنوية، و الصلحية هي تلك التي تضرب على من منعوا المسلمين من الإستيلاء بالقتال على بلدانهم و أنفسهم و أهاليهم و أموالهم، و تحدد قيمتها بما يتفق عليه الطرفان عند الصلح، و أقلها دينار و لا يحدد لها سقف أعلى إذ يبقى تحديد القدر حكرا على الإمام أو الخليفة. أما العنوية فهي تلك التي تفرض على أهالي البلدان التي فتحت عنوة بالقتال و تحت السيف، و تحدد بأربعة دنانير ذهبية على أهل الذهب، أي أغنياء القوم و أربعون درهما فضيا على من هم أقل منهم منزلة، و لنعقد مقارنة بسيطة مع قيمة الذهب اليوم، فقيمة الدينار الذهبي محددة في 4،25 غراما من الذهب، أي أن 4 دنانير هي ما يعادل اليوم 677,45 دولارا في السنة، تلك هي قيمة التعويض عن الإيمان بالإسلام اليوم.

4 دنانير ذهبية عن كل شخص بالغ.
4 دنانير ذهبية عن كل شخص بالغ.

الآن و بعد كل ما سبق ما تفصيله أعلاه، ألا يبدو النص أقرب لرغبات و هوى و إرادة البشر منه لإرادة الخالق، فلا أرى الخالق إلا منزها عن أمور الدنيا من أموال و أملاك و ذهب و فضة، فلا يليق به النزول لهذا المستوى الذي يبقى مجالا بشريا محضا يتصارع حوله البشر كما هي عادتهم منذ الأزل … ؟؟!!!!

في الجزء الثاني من هذا المقال، سوف نعود لتفاصيل أكثر أهمية عن موضوع الجزية، لنوضح طريقة و حيثيات و ظروف أداءها و نسرد تفاصيل دقيقة في هذا الباب من تاريخ الغزو الإسلامي للشعوب المجاورة و ما فرض على أهلها، و سيكون من بينها شرح و تفصيل لما يسمى بالعهدة العمرية، و هي بمثابة تأصيل ثابت في الإسلام لمسألة الجزية و كيفية التعامل مع أهل الذمة ممن أوتوا الكتاب.

مهدي بوعبيد

20/04/2018