الأديان الإبراهيمية : التوحيد تعبير عن طموح سياسي و ليس رغبة إلهية

بالنسبة للأديان الإبراهيمية الثلاث، لا يمكن فصل الإرتباط الضمني بينها و بين القوميات التي نشأت فيها أو الإمبراطوريات التي أنشأتها، كما لا يمكن التعطي معها بمعزل عن السياق التاريخي و المعرفي و السياسي و الإقتصادي الذي ظهرت فيه، فالحاجة للتخلي عن تعدد الآلهة الوثنية و تعويضها بإله واحد يجتمع تحته الكل و يستسلمون لإرادته، هي حاجة سياسية و قومية أولا، و هي جزء أساسي من عملية تجديد المعرفة البشرية المتوفرة في مرحلة تاريخية معينة، قبل أن تكون فعلا إلهيا خالصا.
في حالة اليهودية مثلا، كان التحول من الإله بعل الكنعاني الذي عبدته قبائل يهوذا و السامرة المشتتة في أرض كنعان، إلى الإله يهوه YHWH المتفرد وسط باقي مجمع الآلهة المعروف حينها في منطقة الشرق الاوسط، و الذي كان خليطا بين آلهة بابل و سومر و آكاد و مصر القديمة، و هي كلها حضارات تميزت بوجود سلطة سياسية مركزية، تفرض إرادتها في إطار علاقة تكامل تام بين الحاكم و الآلهة التي يتحدر من نسلها حسب الأساطير و الملاحم و المرويات التراثية لشعوب تلك المنطقة، و عندما أعلن يهوه عن نفسه لهذه القبائل عبر الأنبياء، كان هذا التجلي عبارة عن دعوة مرحلية لتوحيد هاته القبائل في قومية واحدة تجتمع كلها بالخضوع و تتحد خضوعا لإرادته, و من ثم قام هذا الإله المتفرد و الجديد بمكافأة هاته القبائل و الأجيال القادمة المنبثقة منها بمنحها أرض كنعان، أرض أنهار العسل و اللبن، حيث أمرهم ببناء أول منزل له و هو الهيكل القديم، و كأنها صفقة يجتمع فيها الطرفان بما يحقق مصلحتيهما بالدرجة الأولى، و أكثر ما يعبر عن كون اليهودية دعوة قومية أكثر منها دينية، هو كمية الغضب و السعار التي تميز بها الإله يهوه في نصوص العهد القديم، فهو إله غاضب دوما، و يهدد و يتوعد كل من يقترب من شعبه المختار بنصف كلمة، و لا يتردد في التعبير عن مستويات مرعبة من العنصرية التطرف تجاه باقي البشر، حين يعتبرهم أقل قيمة بل أقل بشرية من أبناءه، بني إسرائيل، وصولا لدرجة اعتبارهم هم و أسرهم و أولادهم و نسلهم من بعدهم، مجرد عبيد و خدم عند شعبه المختار، يزرعون أراضيهم و يحصدون زرعهم و يعصرون نبيذهم، و بذلك تشكل العهد الإلهي الأول بين بني إسرائيل و الإله المتفرد العنصري و الغاضب دوما ضد كل البشر بإستثناء شعبه المختار.
أيقونة قبطية تصور النبي - الملك داوود.
أيقونة قبطية تصور النبي – الملك داوود.
أما في حالة المسيحية، تلك الديانة التي اخترعها بولس الرسول، لأن عيسى المسيح لم يأت بدين جديد، بل برؤية جديدة للإله يهوه الذي خرج من ثوب القومية اليهودية، إلى الآب الذي يجتمع تحت إرادته كل البشر بغض النظر عن أصولهم الإثنية و القومية، نجد أنه لم تكتسب هذه المسيحية أي زخم إيماني حقيقي في العالم القديم، إلا بعد أن قرر الإمبراطور  الروماني قسطنطين اعتمادها كديانة رسمية لدولته، بعد أن حلم بالصليب نازلا من السماء قبل إحدى معاركه المهمة، و اعتبر هذا الحلم علامة من السماء على ضرورة إتباع المسيحية كدين رسمي لدولته، و يمكننا القول هنا أن دعوته لتشكيل مجمع نيقية Consul de Nicée عام 325 للميلاد، كانت وراءها إرادة سياسية فعلية لإختراع ديانة جديدة تتوحد تحتها كل الشعوب و القوميات الواقعة تحت حكم روما السياسي و العسكري، بغرض تثبيت مشروعية الإمبراطور الذي حلم بالصليب ليلة معركة عسكرية حاسمة، و لم يكن هدفه تحقيق إرادة الإله المتفرد على الأرض، بل تدعيم سلطته السياسية أولا، و توحيد القوميات المتنافرة داخل إمبراطوريته داخل تناغم ديني واحد يمثل إرادة سياسية رغم التباعد الجغرافي بين الشعوب الواقعة تحت سلطته، و لعل هذا هو السبب الرئيسي الذي جعل مجمع نيقية يعيد تشكيل شخصية عيسى المسيح من جديد، عبر إدخال تفاصيل مأخوذة من شخصيات الآلهة الوثنية القديمة التي عبدتها نفس الشعوب و القوميات الواقعة تحت الحكم الروماني مثل الإله الهندو-إيراني ميثراس، و الإله المصري القديم حورس، إذ أن شخصية المسيح حينها لم يكن لها نفس البعد الشبه أسطوري الذي نعرفه اليوم، و لأن الهدف هو توحيد الشعوب و القوميات تحت إرادة سياسية واحدة عبر الدين الجديد، كان من الضروري تقديم شخصية النبي المخلص بشكل يجعلها قريبة من الشخصيات الأسطورية و الدينية الوثنية المعروفة في العالم القديم.
لوحة حائطية من رسم الفنان الإيطالي RAFFAELLO في القرن السادس عشر الميلادي في ما يسمى بقاعة قسطنطين Sala di Constantino في مبنى الفاتيكان, اللوحة تصور حلم قسطنطين الذي رأى فيه الصليب نازلا من السماء.
لوحة حائطية من رسم الفنان الإيطالي RAFFAELLO في القرن السادس عشر الميلادي في ما يسمى بقاعة قسطنطين Sala di Constantino في مبنى الفاتيكان, اللوحة تصور حلم قسطنطين الذي رأى فيه الصليب نازلا من السماء.
إن ظهور المسيحية و تبلورها كدين توحيدي ليس إلا نتيجة منطقية للإمتداد السياسي و العسكري للإمبراطورية الرومانية، و ليس تحقيقا إعجازيا لإرادة إلهية، و حتى قبل العام 325 ميلادي، كانت الديانة الأكثر انتشارا في الإمبراطورية هي الميثرائية، حيث امتدت عبادة ميثرا من شب القارة الهندية شرقا، إلى حدود إلى ألمانيا في أقصى شمال أوروبا و وصولا لإسبانيا في أقصى الغرب، و لا زالت معابد الميثرايوم Mithraeum شاهدة على مدى إنتشار هذه الديانة في العالم القديم. و حتى إعادة تجميع و تصنيف الأناجيل بين 4 أناجيل رسمية معترف بها، و أناجيل أبوكريفية منحولة أو غير معترف بها تم تدمير و إحراق أغلبها و منع تداولها، هو تصرف يحطم أسطورة الوحي الإعجازي بين السماء و البشر، فلا شيء يؤكد سماوية الأديان الابراهيمية بشكل مطلق غير معجزة الوحي و حديث الله مع البشر سواء الأنبياء أو القديسين من بعدهم، و متى تحطم هذا الرابط الإعجازي المقدس تبعا لما تؤكده التفاصيل التاريخية و اللقى الأثرية و الأركيولوجية، تعود هاته الأديان لموقعها الحقيقي، و هو كونها مجرد معرفة بشرية تطورت عبر مراحل الوعي البشري، لتتحول من مجرد محاولة بدائية لتفسير العالم الغامض المجهول من حولنا، إلى أداة أساسية و ضرورية من أدوات السياسة و تسيير الإمبراطوريات و القوميات.
منحوتة تعود للحقبة الرومانية تمثل الولادة المعجزة للإله ميثرا من الصخرة، و قد عثر عليها شمال بريطانيا و توجد حاليا بمتحف نيوكاسل.
منحوتة تعود للحقبة الرومانية تمثل الولادة المعجزة للإله ميثرا من الصخرة، و قد عثر عليها شمال بريطانيا و توجد حاليا بمتحف نيوكاسل.
و لا يختلف المشهد في حالة الإسلام إلا في بعض التفاصيل البسيطة، فهذا الدين نفسه لم ينشأ من فراغ، بل هو مجرد تكملة لما جاءت به اليهودية و أخذته عنها المسيحية، ليكمل الإسلام الطريق في نفس السياق، مقدما نفسه على كونه الرسالة النهائية من السماء للبشرية كلها، أي أنها آخر محاولة من الله للحديث مع البشر لشرح إرادته و كيفية تنزيلها على الأرض، بينما مجمل أحكامه و تشريعاته هي في أصلها مجرد نقل حرفي و عشوائي من اليهودية، و منطقيا لا شيء يميز الإسلام عما سبقه بما يفسر ضرورة كونه آخر ما أنزل من السماء، بينما أغلب مفاهيمه و تشريعاته هي نقل حرفي من أول ديانة عرفها البشر.
و على الجانب السياسي و الإجتماعي لم تكن دعوة محمد بن عبد الله إلا ترجمة مباشرة لإرادة سياسية بتشكيل ملك كبير تتوحد خلفه القبائل العربية البدوية المشتتة بين نجد و الحجاز و اليمن و جنوب الشام و العراق، و هي إرادة حاول جد النبي محمد الرابع قصي بن كلاب تحقيقها على الأرض قبل ظهور الإسلام بقرنين من الزمن معتمدا على تحالفات عسكرية و اقتصادية و سياسية بين قبائل العرب و بين الإمبراطورية الرومانية و الفارسية، و ذلك عبر تأمين خطوط القوافل، و تكريس سيطرة قريش على الكعبة و الحج و ما يخرج و يدخل الجزيرة العربية من تجارة و موارد و سلع، و ذلك بحكم موقع مكة الجغرافي ، و قد حاول جده الأول عبد المطلب أيضا تحقيقها وسط قريش بعد ذلك، لكنه كان يفتقد الموارد المالية و الكاريزما السياسية الضرورية لفرض رؤيته على الملأ المكي.
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يلقي خطبة حجة الوداع
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يلقي خطبة حجة الوداع
و قد جاء في السيرة الحلبية، و سيرة ابن هشام، قول النبي محمد لملأ قريش المكي : ” أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم، هل تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب و تدين لكم بها العجم .. ؟؟!!”، فعندما يصدر عن محمد مثل هذا القول، فهو لا يعبر عن إرادة الله على الأرض، بل يفصح عن الهدف الحقيقي من وراء دعوته لدين جديد، إنه هدف سياسي و قومي أولا قبل أن يكون دينيا، فهو يتحرك وسط قبائل و تجمعات بشرية تفتقر إلى كيان سياسي يعبر عنها كقومية مستقلة، و تعيش تحت ولاءات متفرقة حسب موقعها الجغرافي، بين الإمبراطورية الفارسية و الرومانية، و هما دولتان قويتان حاربتا بعضهما البعض طيلة قرون طويلة، و هاته الحرب الطويلة جدا قد أنهكتهما عسكريا و سياسيا و ماليا، و بدأت سيطرتهما السياسية على قبائل جنوب العراق و جنوب الشام و نجد و الحجاز ترتخي و تنسحب شيئا فشيئا، مما شكل فراغا سياسيا متاحا تماما أمام من يريد أن يتحرك ليحتله و يفرض نفسه، و لم يكن ذلك ليتحقق دون دعوة دينية توحد الشتات القومي للقبائل تحت فكرة مقدسة واحدة، منبثقة من معجزة الوحي الإلهي الذي اختص به رجلا واحدا من وسط قبيلة تملك شأن العرب اقتصاديا و دينيا لكونها تسيطر على الكعبة، موطن آلهة العرب الوثنية المتعددة، و موسم الحج السنوي هو التطبيق الفعلي لهذا الملك المعنوي الطي لم يكن قد تم تكريسه سياسيا بعد، بالإضافة لإيلاف قريش و رحلتي الصيف و الشتاء للتجارة مع الشام و اليمن، (الذي ذكره محمد في القرآن كمعجزة إلهية اختص بها الله قبيلة قريش دونا عن باقي قبائل و بطون العرب)، و ما حديثه عن تملك شأن العرب و العجم عبر دعوته الدينية إلا تعبير واضح و جلي عن الإرادة السياسية المتخفية وراء هذا الدين الجديد.
و هو نفس ما يؤكده عتبة بن ربيعة لقريش حين التقى بمحمد و استوعب عمق و كنه دعوته فقال لهم : ” يا معشر قريش، أطيعوني و اجعلوها بي و خلو ما بين هذا الرجل و ما هو فيه، فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم و إن يظهر على العرب فملكه ملككم و عزه عزكم، و كنت أسعد الناس به ” و لسنا في حاجة لتفسير ما يقصده الرجل بجملته هذه، فمن الواضح أنه يتحدث عن أمر الملك و ليس الدين.
و تحضرني هنا قصة عجيبة في غزوة الخندق، حيث يقول إبن هشام في سيرته عن سيرة إبن إسحاق : ” وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت علي صخرة، ورسول الله ﷺ قريب مني، فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى.

قال: ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، قال: قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت، لمع تحت المعول وأنت تضرب؟

قال: «أوقد رأيت ذلك يا سلمان؟» قال: قلت: نعم.

قال: «أما الأولى فإن الله فتح علي باب اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح علي باب الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق».

منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يتلقى الوحي من جبريل في غار حراء.
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يتلقى الوحي من جبريل في غار حراء.
محمد في هذا السياق، يواجه غزوا عسكريا من الملأ المكي، يهدده بحصار طويل، و بتحالف ضخم بين القبائل و معىيهود المدينة بغرض القضاء على دعوته، و أصحابه في ضيق من الحال و ضنك و فقر و جوع نتيجة الحصار، بينما نراه يستغل حادثة بسيطة جدا خلال حفر الخندق لصد الغزو، ليحولها لنبوءة إلهية بفتح قصور الحيرة في العراق و مدائن كسرى في فارس و حواضر الروم في الشام، و تصرفه و حديثه هذا ينم عن ذكاء سياسي كبير جدا و كاريزما قوية جدا تظهر في وضع من الضعف و الهوان قد يؤثر على نفسية أصحابه و قومه، فيلجأ هو لدعمهم نفسيا بإثارة حلم ملك سياسي ممتد خارج حدود إمكانياتهم العسكرية و السياسية، و هو بذلك يستعمل الآلهة بشكل مغرق في البراغماتية إلى أقصى الحدود، تماما كما فعل إبراهيم و موسى و سليمان و داوود مع بني إسرائيل حين ربطوا بين الإله يهوه و القومية اليهودية الناشئة وسط قبائل بدوية تعيش حالة من الضآلة و هي شبه محاصرة وسط حضارات العالم القديم حينها (بابل و آكاد و آشور و مصر القديمة)، و كما فعل قسطنطين حين ادعى أنه قد حلم بصليب نازل من السماء و قد كتب عليه (بهذا تغلب).
كما يؤكد هذه الرؤية السياسية جد النبي محمد، عبد المطلب حين يقول عن أولاده و أحفاده مفاخرا بهم قريش : ” إذا أحب الله إنشاء دولة، خلق لها أمثال هؤلاء” و هذه جملة تحمل من التمني و الطموح السياسي الشيء الكثير، قبل حتى أن تبدأ دعوة محمد للدين الجديد، و لعل أكثر من فهم هذا الأمر و عبر عنه بوضوح، هو أبو سفيان، رأس بني أمية حين قال لعثمان بن عفان بعد توليه الخلافة بعد مقتل عمر بن الخطاب : ” لقد صارت إليك تميم و عدي ( من كبريات قبائل العرب) فأدرها كالكرة و اجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو الملك و لا أدري ما جنة و لا نار ” (المصدر : السيرة الحلبية)، و الرجل هنا يتحدث بصراحة عن رؤيته الحقيقية لدعوة محمد بتجرد و واقعية عميقة، بكونها إرادة ملك و سياسة أولا، و الجزء الغيبي أو الديني منها لا يهمه و لا يعترف به حتى، و هو ما تأكد فعليا على الأرض حين أحاط عثمان بن عفان نفسه ببني قومه من بني أمية ثم ولاهم كل شيء حتى إنتهى الأمر بتلك الفتنة التي نعرفها جميعا، كما تأكدت الرؤية نفسها فيما بعد بانتهاء مفهوم الخلافة و تعويضه بالملك الوراثي عبر إبنه معاوية بن أبي سفيان و هو الملك الذي تحول بعد ذلك لدولة حقيقية لم يتردد ملوكها و سادتها و قادة جيوشها في فرض سلطتها على القومية العربية الناشئة بالقوة العسكرية (موقعة الحرة و كربلاء و محاصرة الحجاج لابن الزبير في مكة).
كما رأينا فإن نشأة و ظهور الأديان التوحيدية لا يحمل من الإعجاز الإلهي إلا فكرة الوحي، أو حديث الله مع الأنبياء و القديسين، و هو إعجاز متجاوز اليوم تماما بحكم المنطق، خاصة إذا ما وضعت النصوص المقدسة تحت مجهر الفكر النقدي و التحليلي، بل حتى تحت مجهر الفلسفة (حيث يظهر الدين كمحاولة بدائية للتفلسف في مواجهة الطبيعة)، أما ما تبقى خارج الوحي، فهو ليس إلا حتمية سياسية ناتجة عن معطيات جغرافية و ديموغرافية و إقتصادية و معرفية منفصلة تماما عن السماء و من يسكنها، فحيث تتكون تجمعات بشرية تتقاسم نفس المجال الجغرافي و الثقافي و المعرفي، و نفس الموارد و الأنشطة الإقتصادية، يكون من المنطقي تماما أن تتشكل حولهم إرادة سياسية لتوحيد هاته التجمعات في كيان قومي واحد، يعبر عن طموحات هاته التجمعات في السيطرة الفعلية على هذا المجال الجغرافي و ما يحتويه من موارد و أنشطة و ثقافة و معرفة و تجاذبات، و يصبح التوحيد هنا بمثابة هروب من التفرقة الإجتماعية و السياسية التي تنتج عادة عن تعدد الآلهة الوثنية التي عبدها البشر منذ بداية العصر النيوليثي (حوالي 6000 – 7000 سنة قبل الميلاد)، حيث تعددت الآلهة بتعدد مكونات التجمعات البشرية البدائية، و بتعدد مكونات المجال الطبيعي و الجغرافي الذين تعيش فيه.
رسم لقطعة من جرة فخار وجدت بمنطقة كونتيلة عجرود بسيناء يبين تصورا للإله يهوه و زوجته عشيرة، القطعة موجودة حاليا بمتحف الأركيولوجيا بجامعة تل أبيب.
رسم لقطعة من جرة فخار وجدت بمنطقة كونتيلة عجرود بسيناء يبين تصورا للإله يهوه و زوجته عشيرة، القطعة موجودة حاليا بمتحف الأركيولوجيا بجامعة تل أبيب.
إن التوحيد بكونه إلغاء تاما و نهائيا لتنوع و تعدد الآلهة الوثنية، هو سعي محموم لاكتساب أدوات القوة و الإرادة السياسية و العسكرية عبر دمج مكونات المجتمعات البشرية في بوثقة واحدة، تتحرك داخل مجال موحد، بطموحات من يملكون زمام الأمور السياسية، بعيدا عن الآلهة و ما أوحت به لمن اصطفتهم من البشر، و لعل هذه النقطة بالذات هي ما يفسر كون معظم أنبياء بني إسرائيل قد كانوا ملوكا يسعون لتمكين حكمهم على شتات قبائل يهوذا و السامرة على أرض كنعان القديمة، و هو ما يفسر كون الديانة المسيحية قد انتظرت ما يناهز الأربعة قرون لتتشكل في صورتها الحالية، و لم يتحقق ذلك إلا  بإرادة الإمبراطور قسطنطين العظيم الذي رأى فيها أداة سياسية كفيلة بتقوية سلطته و حكمه، و هو يفسر كون الدولة الأموية كترجمة لظهور قومية جديدة في منطقة الشرق الأوسط قد بدأت بعد 41 سنة من هجرة محمد من مكة إلى المدينة، إن الأديان التوحيدية كلها ليست إلا نتاجا سياسيا طبيعيا تماما للبيئة التي ظهرت فيها، و لا دخل لرغبات و إرادة الآلهة في ظهورها.
مهدي بوعبيد
21/06/2018

هل الإنجيل كتاب وحي منزل من السماء .. ؟؟

لا يوجد هناك شيء إسمه الكتاب المقدس أو الإنجيل المنزل من السماء على عيسى المسيح، تماما مثل المسيح نفسه كشخصية لا يوجد دليل تاريخي واحد يؤكد وجودها فعليا.
شخصيات أسطورية سبقت قصة المسيح و تشترك معه في عدة تفاصيل.
شخصيات أسطورية سبقت قصة المسيح و تشترك معه في عدة تفاصيل.

الأناجيل ليست كتبا مقدسة نزلت بها الملائكة على عيسى المسيح ثم حرفت فيما بعد كما يخيل للمسلمين اليوم؛ بل هي في مجملها قصة حياة عيسى و كلامه و عظاته و خطبه و أسفاره كما كتبها رفاقه و حوارييه و رهبان كثر من بعدهم و فيها تفاصيل عديدة متناقضة و غير مترابطة أو متشابهة بين إنجيل و آخر، و إلى جانب الأناجيل الأربعة الرسمية التي إعترف بها مجمع نيقية المسكوني عام 325 للميلاد، هناك عشرات الأناجيل الأبوكريفية الأخرى التي تم منعها و إحراقها و تحريم تداولها بين الناس و ذلك بأمر من الإمبراطور الروماني قسطنطين بعد أن أكد قرار المجمع المسكوني.

من مخطوطات وادي قمران وتشمل سفر أشعياء 17/57 إلى 9/59.
من مخطوطات وادي قمران وتشمل سفر أشعياء 17/57 إلى 9/59.

الأناجيل الأربعة الرسمية المضمونة في الكتاب المقدس اليوم و المعترف بها من الكنيسة الكاثوليكية هي :

إنجيل متى، إنجيل مرقس، إنجيل لوقا، إنجيل يوحنا.

الأناجيل الأخرى أو المسماة بالمنتحلة أي الغير المعترف بها في الكتاب المقدس هي :

إنجيل توما، إنجيل الحق، إنجيل فيلبس، إنجيل مريم المجدلية، إنجيل يهوذا، إنجيل الطفولة العربي، إنجيل مني، إنجيل مرسيون، إنجيل السبعين، إنجيل الإثنى عشر، إنجيل العوالم الأربعة السماوية، إنجيل الحسن، إنجيل حواء، إنجيل الناصريين، إنجيل رادوسلاف، إنجيل برنابا، إنجيل برثولوماوس، إنجيل برلين المجهول، أناجيل البهناسة، إنجيل إقرتون، إنجيل الأبيونيين، إنجيل العبرانيين، إنجيل المصريين القبطي، إنجيل المصريين اليوناني، إنجيل مرقس السري، إنجيل يعقوب، إنجيل متياس، إنجيل بطرس، إنجيل برلين المجهول، الإنجيل الرباعي.

و بعض هذه الأناجيل كتب في القرن التاسع و العاشر الميلادي، أي أكثر من 1000 سنة بعد تاريخ وفاة المسيح المفترض، و عدد منها تم اكتشافه بعد العثور على مخطوطات البحر الميت (مخطوطات قمران)و مخطوطات نجع حمادي في النصف الأول من القرن العشرين. و منها ما هو مكتوب بالعبرية و القبطية و الآرامية واليونانية القديمة، و كلها تجمع تفاصيل متناقضة و مختلفة فيما بينها حول نفس الشخصيات و الأحداث، بل هناك نسخ مختلفة و متناقضة من نفس الكتاب.

إنجيل توما إكتشف بشكل شبه كامل في مخطوطة بردي مع مخطوطات نجع حمادي عام 1945
إنجيل توما إكتشف بشكل شبه كامل في مخطوطة بردي مع مخطوطات نجع حمادي عام 1945

النقطة الأهم الآن هي أنك عندما تحاول إقناعي بأن الإنجيل قد تنبأ بمجيء النبي محمد ورسالته النهائية كخاتمة لرسائل النبوة الإلهية و ذلك عبر ذكر إسمه، فأنت تهذي بهراء غير منطقي و لا أساس له من الصحة، فلا يوجد هناك إنجيل واحد محدد بل أناجيل عديدة و هي كلها كنب غير منزلة من السماء بل كتبها أشخاص محددين من بينهم رهبان وكهنة ينتمون لمختلف المذاهب النصرانية والمسيحية التي عرفها التاريخ، و مرة أخرى لولا رغبة الإمبراطور في اتخاذ دين جديد يوحد به سلطة إمبراطوريته الضخمة لما وجدت هناك ديانة مسيحية و لا أناجيل، بل لكانت اليوم مجرد كتب تاريخية تتم دراستها مثل الملاحم السومرية والبابلية و الهندية (جلجامش و إينوما إيليش، و المهابهاراتا و البهاجافادجيتا) أو مثل كتب الموتى المصري القديم الذي وجدت بردياته و تمت دراستها و ترجمتها.

صورة لأحد صفحات مخطوطات نجع حمادي
صورة لأحد صفحات مخطوطات نجع حمادي

أروع شيء في دراسة التاريخ هو أنه علم مجرد وموضوعي لدرجة القسوة المطلقة، و في ما يتعلق بالأديان بالخصوص فهو لا يعترف بالقداسة لأي شيء، بل يخضع للمنطق و الأدلة الموثوقة فقط لا غير.

مهدي بوعبيد

17/12/2017

زوجة أم أخت أبو الأنبياء … ؟؟!!!

يحكي النص التوراتي في سفر التكوين قصة النبي إبراهيم أو أبو الأنبياء كما يسمى في الديانات الإبراهيمية الثلاث بإستفاضة طويلة و مفصلة حد الإسفاف و التكرار الثقيل، لكن أكثر ما يشد القارئ اليقظ في قصة إبراهيم أو أبراهام، هو وصوله مهاجرا إلى مصر مع زوجته سارة هربا من الجفاف و القحط و الجوع في أرض الشام، لدى وصوله لأرض مصر عند “الفرعون”، خاف أن يتسبب جمال زوجته سارة في قتله و سلبه إياها، ففضل الكذب و إدعى أنها أخته، مما جعل فرعون مصر يأخذها و يضمها لحريمه، و عندما غضب الله على فرعون مصر فطن هذا الأخير للأمر و علم أن سارة زوجة إبراهيم، فأعادها له مؤنبا إياه على كذبه و إدعاءه، و كافأه بمنحه قطعان ماشية و بقر و غنم و إبل، و العديد من الخدم و العبيد و الإماء و أمر رجاله بأن يرافقوه إلى حيث يريد الذهاب خارج مصر و هو ما ينافي المنطق تماما من طرف رجل يستهجن كذبة إبراهيم المخجلة، لكن المثير في الأمر هو أنه حتى هاته اللحظة لم يغضب الرب من كذب إبراهيم و تركه فرعون ليأخذ زوجته، بل غضب على فرعون و عاقبه لأنه أخذ إمرأة متزوجة، رغم أن زوجها هو نفسه من كذب و إدعى أنها أخته و ليست زوجته … !!!
رحلة إبراهيم كما صورها سفر التكوين في العهد القديم.
رحلة إبراهيم كما صورها سفر التكوين في العهد القديم.
هذا المشهد المذكور أعلاه مأخوذ من سفر التكوين و هو الذي يفصل قصة أبراهام (The Patriarch) قي رواية طويلة جدا، لكنك عندما تقرأ بموضوعية و تجرد تصل لخلاصة واحدة، و هي أن هذه التصرفات لا تليق لا بالأنبياء و لا بالرسل و لا بأبيهم الأول، و لا بالله و لا بالأديان الإبراهيمية الثلاث، و لا حتى بالقيم الإنسانية الفطرية او الغريزية … !!!
رسم يصور إبراهيم أبو الأنبياء ورد في إنجيل SOUVIGNY و هي مخطوطة قديمة تعود للقرن الثاني عشر الميلادي، كتب عليها العهد القديم و الجديد، و المخطوطة لا زالت محفوظة في مكتبة مدينة Moulins بفرنسا.
رسم يصور إبراهيم أبو الأنبياء ورد في إنجيل SOUVIGNY و هي مخطوطة قديمة تعود للقرن الثاني عشر الميلادي، كتب عليها العهد القديم و الجديد، و المخطوطة لا زالت محفوظة في مكتبة مدينة Moulins بفرنسا.
لا أستطيع تخيل كمية الغباء و التنطع التي دفعت كهنة اليهود لإدراج مثل هاته الأساطير في كتبهم خلال السبي البابلي، فليس هناك شخص عاقل في هذا العالم يقبل بهذا الكذب المشين و المخزي و في حق زوجته، حتى لو نزلت رسالة إلهية على أم رأسه و فلقته نصفين و هي تأمره بذلك … !!!
مهدي بوعبيد
14/12/2017

الديانات الإبراهيمية … سلسلة تاريخية من النسخ و اللصق‎

الإسلام ليس إلا يهودية معربة، قد يبدو هذا القول غريبا بالنسبة للبعض و مرعبا بالنسبة للكثيرين، لكنها الحقيقة التي ينضح بها التاريخ، ذلك التاريخ الذي لا نقرأه و حتى إن حدث و تصفحنا شيئا منه، نعتبره مجرد أكاذيب و ضلالات تدخل في إطار مؤامرة كونية على الإسلام …

الإسلام ليس إلا يهودية معربة، قد يبدو هذا القول غريبا بالنسبة للبعض و مرعبا بالنسبة للكثيرين، لكنها الحقيقة التي ينضح بها التاريخ، ذلك التاريخ الذي لا نقرأه و حتى إن حدث و تصفحنا شيئا منه، نعتبره مجرد أكاذيب و ضلالات تدخل في إطار مؤامرة كونية على الإسلام.

اللوحات الطينية السبع التي إكتشفت في شمال غرب العراق قرب الموصل في بداية القرن العشرين و هي تروي قصة الخلق الأولي كما روتها ملحمة إينوما إليش.
اللوحات الطينية السبع التي إكتشفت في شمال غرب العراق قرب الموصل في بداية القرن العشرين و هي تروي قصة الخلق الأولي كما روتها ملحمة إينوما إليش.

القول بأن الله قد أنزل اليهودية كديانة سماوية إلهية مخالف تماما للحقيقة، فاليهودية هي ديانة خاصة بأحفاد إبراهيم من قبائل اليهود، أولئك الذين وعدهم الله بأرض كنعان (أرض فلسطين)، و هي ديانة خاصة بهؤلاء القوم و أحفادهم، و لهذا لن تجد مفهوم التبشير في اليهودية حتى اليوم، أما التوراة و التلمود فهي ليست كتبا منزلة من الله، بل كتبها أحبار اليهود إبان السبي البابلي على يد الملك العظيم نبوخذ نصر الذي حاصر و دمر أورشليم و هدم المعبد الأول بين عامي 589 و 587 قبل الميلاد، و في هذا السبي أخذ نخبة القبايل اليهودية كعبيد معه لبابل، و هناك كتبت التوراة و جاءت مشبعة حد التخمة بروايات و أساطير و تفاصيل المرويات التي كان يتناقلها كهنة و رهبان عشتار و مردوك و بعل و إنانا و هي كلها آلهة بلاد الرافدين التي توارثت عبادتها و تقديسها عدة حضارات مرت من تلك الأرض، و بقيت أساطيرها منتشرة بين شعوب المنطقة منذ عهد السومريين، هاته الأساطير في مجملها هي قصة الطوفان و الخلق الأولي و هي مأخوذة من ملحمة جلجامش و ملحمة إينوما إليش كلمة بكلمة و سطرا بسطر.

مشهد تخيلي للسبي البابلي لليهود على يد الملك العظيم نبوخذ نصر
مشهد تخيلي للسبي البابلي لليهود على يد الملك العظيم نبوخذ نصر

بالنسبة للمسيحية فهي تاريخيا لم تكن ديانة، بل مجرد مذهب هرطوقي منشق عن الديانة اليهودية و لم تعترف به إلا قلة ضئيلة من الأتباع. هذا المذهب نفسه إنشقت عنه عدة مذاهب و توجهات أخرى، و لم تنتشر هاته المذاهب خارج بعض مناطق الشرق الأوسط الموزعة بين شمال سوريا و جزء من باديتها عند مدخل الصحراء و شمال الجزيرة العربية، و لم تكن تعرف حينها لا بالمسيحية و لا بالنصرانية، ففي الجزيرة العربية مثلا سميت بالنسطورية نسبة للراهب نسطور و في مصر عرفت بالآريوسية نسبة لآريوس و طيلة أكثر 3 قرون بعد تاريخ موت المسيح المفترض ظلت المسيحية ديانة شبه منسية في العالم و لا يؤمن بها إلا جماعات قليلة يتعرض أغلبها للإضطهاد و القتل و التنكيل من الرومان و الفرس و من القبائل الوثنية، و كانت الديانة الميثرائية و هي ديانة هندو-إيرانية قديمة تنتشر أكثر من مذاهب المسيحية و ذلك على إمتداد العالم المعروف آنذاك، حيث وجدت معابد عديدة للإله ميثراس بدءا من شرق إيران و وصولا لشمال إسبانيا، فرنسا، ألمانيا وصولا لإسكتلندا, و إستمرت الميثرائية كأكثر الديانات إنتشارا في العالم بين القرن الأول و الرابع الميلادي، و لولا أن الإمبراطور الروماني قسطنطين قد إختار المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية و قام حينها بعقد مجمع نيقية في العام 325 ميلادية لكي يضع الأسس الرسمية لهذه الديانة الجديدة لما عرف العالم شيئا عن المسيحية بكافة مذاهبها، و لظلت طي النسيان حتى اليوم. و قد دعى قسطنطين لهذا المجمع رهبان و قسيسين و كهنة يمثلون مختلف مذاهب المسيحية الموجودة في المناطق التي تقع تحت حكم الإمبراطورية الرومانية، و قد إجتمعوا طيلة أكثر من شهرين و هم يناقشون مختلف تفاصيل الديانة الرسمية الجديدة التي سوف يعلنها قسطنطين الأول، بما في ذلك حقيقة المسيح و مريم و الولادة العذراء و الحديث في المهد و نبوته و صلبه و قيامه من الموت و صعوده للسماء و بعثه من جديد، و اللاهوت و الناسوت و الثالوث المقدس، و بما ان روما كانت لا تزال وثنية حينها و يمتد حكمها بين القارات الثلاث، فقد جاءت شخصية عيسى المسيح خليطا من عدة شخصيات نجدها في عدة ديانات في شكل أساطير تعود لآلاف السنين قبل مجيء المسيح المفترض مثل ميثراس، حورس، كريشنا، أدونيس، و كلها تمثل آلهة و ديانات كانت لا زالت موجودة و منتشرة بين الشعوب التي تحكمها روما آنذاك، …، كما قام المجمع بإختيار الأناجيل الرسمية الأربعة و أمر الكهنة و الرهبان بمنع و إحراق باقي الأناجيل المنتشرة بين الناس. و عند نهاية المجمع المسكوني أعلنت المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية (رغم أن قسطنطين قد بقي وثنيا حتى موته و لم يؤمن بها)، و هي في جزء كبير منها نفس المسيحية الكاثوليكية التي نعرفها الآن.

مشهد تخيلي للمجمع المسكوني الذي عقد في نيقية في العام 325 بعد الميلاد, بحضور الإمبراطور قسطنطين.
مشهد تخيلي للمجمع المسكوني الذي عقد في نيقية في العام 325 بعد الميلاد, بحضور الإمبراطور قسطنطين.

مما يعني منطقيا أنه لولا أن إمبراطورا وثنيا كان يبحث عن توجه جديد يوحد به الإرادة السياسية و العسكرية لإمبراطوريته لما كان أحد قد سمع بها اليوم و لبقيت ديانة غابرة منسية في الزمن مثل آلاف المعتقدات التي عرفها البشر و طوتها صفحات التاريخ.

في مسألة الأناجيل يجب أن نحدد نقطة مهمة، فهي ليست كتبا مقدسة نزلت بها الملائكة على عيسى المسيح ثم حرفت فيما بعد كما يخيل للمسلمين اليوم؛ بل هي في مجملها قصة حياة عيسى و كلامه و أسفاره كما كتبها رفاقه و حواريوه و رهبان كثر من بعدهم و فيها تفاصيل عديدة متناقضة و غير مترابطة أو متشابهة بين إنجيل و آخر، و إلى جانب الأناجيل الأربعة الرسمية هناك عشرات الأناجيل الأبوكريفية الأخرى (راجع إكتشافات مخطوطات البحر الميت و مخطوطات نجع حمادي).

مخطوطات البحر الميت
مخطوطات البحر الميت

في مسألة الشعائر و الأدعية و الصلوات و القصص و الروايات و التفسيرات الدينية للخلق الأولي، نجد أن المسيحية تأخذ نفس التفاصيل عن اليهودية التي أخذت بدورها عن البابليين و السومريين و الأكاديين و الإسلام جاء في القرن السادس الميلادي و أخذ عن كل هؤلاء، و خاصة عن اليهودية فيما يخص التشريعات و الأحكام المتشددة.

الإله ميثراس و هو يقتل الثور، منحوتة وجدت في منطقة Heidelberg جنوب غرب ألمانيا.
الإله ميثراس و هو يقتل الثور، منحوتة وجدت في منطقة Heidelberg جنوب غرب ألمانيا.

الحقيقة المرعبة في كل هذا هو أن علماء التاريخ و الأركيولوجيا و بعد أبحاث و حفريات إستمرت منذ نهاية القرن التاسع عشر و حتى اليوم، لم يجدوا نقشا واحدا أو بناء أو قطعة عملة أو فسيفساء أو تمثال، او بوابة أو عمود واحد يتحدث نبي واحد من أنبياء اليهودية او المسيحية كما جاء ذكرها في التوراة و الإنجيل، و هم يجمعون اليوم رسميا على كون قصص إبراهيم و إسحق و إسماعيل و يعقوب و موسى و غيرهم، هي مجرد أساطير تم تجميعها من مرويات اقدم توارثتها شعوب و قبائل الشرق الأوسط و آسيا الوسطى و الصغرى، و هذا ما تؤكده دراسة الأناجيل الأربعة و الأناجيل الأبوكريفية و التوراة و التلمود و المدراش اليهودي، كما يؤكده القرآن الذي أخذ نفس القصص و الروايات و أعادها بنفس الشكل و بمجمل ما إحتوت عليه من أخطاء تم تكذيبها اليوم بشكل فعلي.

الإله الهندوسي كريشنا، الذي تتشابه أسطورته مع قصة المسيح عيسى في عدة جوانب، مثل الولادة العذراء و الحديث في المهد و الحواريين الإثنا عشر، و علاج المرضى و المشي على الماء.
الإله الهندوسي كريشنا، الذي تتشابه أسطورته مع قصة المسيح عيسى في عدة جوانب، مثل الولادة العذراء و الحديث في المهد و الحواريين الإثنا عشر، و علاج المرضى و المشي على الماء.

إذن دعونا نتساءل و بعيدا الغيبيات المقدسة، لو لم يختر الإمبراطور قسطنطين الأول المسيحية كديانة رسمية لدولته و لو لم يقم قبل ذلك الملك البابلي العظيم نبوخذ نصر بسبي اليهود و أخذهم عبيدا لبلاده، من أين كان سيجد الإسلام منابعه التي كتب بها القرآن و وضعت بها الأحكام و التشريعات الدينية … ؟؟!!!

الشيء المؤكد هو أن الأديان أيا كان شكلها أو منبعها، سواء كانت وثنية او إبراهيمية فهي تبقى في الأصل مجرد تشكيلة من الغيبيات التي لا تستند لمنطق عقلي ثابت، فهي تعبير عن ذلك الجانب الميتافيزيقي الذي عاش الإنسان تحت سلطته لمئات الآلاف من السنين، و خلال الفترة التي يمكن تسميتها بطفولة البشرية، لم يسعفه وعيه المحدود في فهم العالم و الظواهر الطبيعية التي يواجهها و بالتالي لجأ إلى التفسيرات الغيبية كوسيلة وحيدة لتعويض هذا العجز عن الفهم. و عندما تخضع هاته المفاهيم الغيبية للعقل و المنطق و تدرس سيرورتها التاريخية بموضوعية و تجرد فمن الطبيعي تماما أن تجد نفسك أمام مشهد يختلف تماما عن ذلك البناء الميتافيزيقي المغلف بطبقات سميكة من القداسة و الخوف من المجهول.

مهدي بوعبيد
18/06/2016

 

يهوه إله العهد القديم … من التعدد إلى التفرد – الجزء الثاني

تابعنا في الجزء الأول من هذا البحث المسار المفصل لظهور الحاجة لدى قبائل يهوذا و السامرة لإيجاد آلهة متفردة تمثل القومية اليهودية الناشئة، وسط بحر من الحضارات القديمة التي تمثل قوميات و إمبراطوريات قوية و ممتدة و أكثر تنظيما و إستقرارا على المستوى السياسي و العسكري بالخصوص. و رأينا كيف أن القبائل التي استوطنت منطقة الشام و البادية السورية و أرض فلسطين قد خرجت من حالة التبعية و التأثر السلبي بالحضارات المحيطة بها، إلى إنتاج منظومتها الدينية الخاصة بها عبر إختيار إله مغمور من مجمع الآلهة الكنعانية القديمة، و وضعه في مقام الإله المتفرد عن باقي الآلهة التي لم يكن يرفض وجودها في بداياته، بحيث يأخذ مكانه وسط عشرات الآلهة التي تعبدها و تقدسها الحضارات المحيطة بهاته القبائل، و هذا التفرد جعل هذا الإله يقبل فكرة التعدد لكن مع التأكيد في نفس الوقت على اختصاصه بقبائل أرض يهوذا والسامرة، تماما مثل أي شيخ قبيلة مع أتباعه، في إحالة واضحة على فكرة الطوطم التي مثلت أولى تصورات التجمعات البشرية الباليوليثية لشكل الآلهة.

في هذا التصور الأولي للإله المتفرد بقومية ناشئة، كان “يهوه” يقبل تماما بوجود آلهة أخرى متعددة تمثل بقية الشعوب و الحضارات و دياناتها و معتقداتها المختلفة، قبل أن يتحول في المرحلة الأخيرة لإله مطلق و يدخل حالة التوحيد بإعلانه عن نفسه كإله لشعبه المختار.

yhwh

من هو “يهوه” :

إن دراسة أصل هذا الإله قد عرفت تجاذبات كثيرة بين الباحثين في تاريخ الأديان و علماء التاريخ، فخارج كتب التوراة هذا الإسم لا يوجد له أي أثر أركيولوجي مدون قبل العام 1200 قبل الميلاد، و من المفيد التذكير هنا بأن الحضارات السابقة كلها لم تعرف نزعة توحيدية في الأديان و المعتقدات التي كانت تؤمن بها (باستثناء ديانة الإله “آتون” التوحيدية التي نشرها الفرعون أخناتون في مصر القديمة حوالي العام 1336 قبل الميلاد)، و تذكر الألواح الطينية المكتشفة في مدينة أوغاريت السورية و التي تعود للعام 1200 قبل الميلاد الإله “يهوه” الذي يظهر إسمه مختصرا بالكتابة المسمارية بصيغة “Yw“، و إن كانت هذه المعلومة محط خلاف شديد بين علماء التاريخ، الذين يصرون على كون القصص و الملاحم التي ترويها هذه الألواح هي أقدم بكثير من التاريخ المذكور.

تمثال صغير من البرونز و الذهب للإله بعل تم اكتشافه في منطقة أوغاريت شمال سوريا، موجود حالبا بمتحف اللوفر بباريس.
تمثال صغير من البرونز و الذهب للإله بعل تم اكتشافه في منطقة أوغاريت شمال سوريا، موجود حالبا بمتحف اللوفر بباريس.

و يمكن تفصيل النصوص التي جاء فيها ذكر “يهوه” تاريخيا بالشكل التالي :

– نصوص الألواح الأوغاريتية من شمال سوريا، و قد ذكر فيها الإله “يهوه” كإبن للإله “إيل أو عليون” و هو كبير آلهة الكنعانيين، و النص يعود للألف الثاني قبل الميلاد.

– نقش على جدار في موقع خربة الكرم، و هو موقع أثري قديم غرب مدينة الخليل الفلسطينية، و يعود تاريخه للألف الخامسة قبل الميلاد، و يقول النقش بوضوح : ” لتحل عليك بركة الإله يهوه و عشيرته ” و قد تم تأريخ النص للفترة ما بين العام 750 و 700 قبل الميلاد. (فراس السواح، تاريخ أورشليم ص 204).

– تم العثور في موقع تل حليف (جنوب الخليل) على بقايا معبد قديم دمره الجيش الآشوري خلال غزوه لأرض كنعان عام 701 قبل الميلاد و وجد داخل المعبد تمثال للآلهة عشيرة، و المعبد كان مخصصا لعبادة الاله “يهوه”. (عصام السخيني، فلسطين و الفلسطينيون، صفحة 62)

– كما عثر في منطقة كونتيلة عجرود‎‎ شمال شرق شبه جزيرة سيناء على إسم الاله “يهوه” و إلى جانبه إسم زوجته “عشيرة” منقوشا على جرار من الفخار تعود للقرن السابع قبل الميلاد في نصوص قصيرة بمثابة دعاء يقول : “لتحل عليك بركة يهوه إله السامرة و عشيرته” و في نص آخر :” لتحل عليك بركة يهوه إله تيمان و عشيرته” (فراس السواح، تاريخ أورشليم ص 204).

رسم لقطعة من جرة فخار وجدت بمنطقة كونتيلة عجرود بسيناء يبين تصورا للإله يهوه و زوجته عشيرة، القطعة موجودة حاليا بمتحف الأركيولوجيا بجامعة تل أبيب.
رسم لقطعة من جرة فخار وجدت بمنطقة كونتيلة عجرود بسيناء يبين تصورا للإله يهوه و زوجته عشيرة، القطعة موجودة حاليا بمتحف الأركيولوجيا بجامعة تل أبيب.

هاته الآثار الموثقة تؤكد أن قبائل يهوذا و السامرة قد عبدت آلهة متعددة لم تكن نتاجا فكريا و دينيا خالصا و خاصا بها، بل أخذت من البانثيون الأوغاريتي و الفينيقي و حتى المصري القديم في فترة معينة، فقد عثر على عدة تماثيل و منحوتات سواء في منطقة الجليل الأعلى أو النقب تمثل آلهة مختلفة عبدها سكان هذه المناطق منذ ما قبل 2000 سنة قبل الميلاد، و من بين هذه الآلهة نذكر بعل الكنعاني و أدونيس الفينيقي (أو ما يسميه الأحبار أدوناي أو السيد و هو تعبير يقصدون به يهوه الذي يحرمون ذكر إسمه حتى عند قراءة التوراة، باستثناء واحد خلال طقوس اليوم كيبور Yom Kippour أو عيد الغفران).

Déesse Asherah, trouvée dans la région de Ras Shamra Ugarit en Syrie, datée à l'an 1300 AD, sculpمنحوتة من العاج تصور زوجة الإله يهوه عشيرة، تم إكتشافها بمنطقة رأس شمرا - أوغاريت شمال سوريا، تم تأريخها للعام 1300 قبل الميلاد و توجد حاليا بمتحف اللوفر بباريس.
منحوتة من العاج تصور زوجة الإله يهوه عشيرة، تم إكتشافها بمنطقة رأس شمرا – أوغاريت شمال سوريا، تم تأريخها للعام 1300 قبل الميلاد و توجد حاليا بمتحف اللوفر بباريس.

التشابه بين بعل و يهوه : 

و لعل التشابه الكبير بين صفات الإله بعل الكنعاني و يهوه هي ما يؤكد هذه العلاقة بين الإثنين، فمن صفاتهما المطلقة القدرة على التحكم في الغيوم و السحب و إستخدامها كمركبة، بحيث نجد نصا في أحد أناشيد مناجاة الإله بعل يقول :

إني أقول لك أيها الأمير بعل، إني أكرر يا فارس الغيوم: هوذا عدوك يا بعل. هوذا عدوك سوف تقتله؛ ها أعداؤك سوف تفنيهم؛ ولسوف تفوز بالمُلْك إلى الأبد، وتبسط سيادتك على الكل دوماً

بينما نجد الآية 3 من السفر 104 من سفر المزامير في الجزء الثالث من العهد القديم المسمى بالكيتوفيم Ketuvim تصف “يهوه” بما يلي  : “الْمُسَقِّفُ عَلاَلِيَهُ بِالْمِيَاهِ. الْجَاعِلُ السَّحَابَ مَرْكَبَتَهُ، الْمَاشِي عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ“.

و في جانب آخر من التشابه بين بعل و يهوه، هناك الجلوس في مجمع الآلهة أو وسط الآلهة، فكما يجلس بعل في مجمع الآلهة العظيم بقيادة كبير الآلهة “إيل“، يجلس يهوه في مجمع الله وسط الآلهة، كما يصفه المزمور 82 من سفر المزامير قائلا : ” مزمور لآساف. الله قائم في مجمع الله. في وسط الآلهة يقضي، حتى متى تقضون جورا وترفعون وجوه الأشرار ؟ سلاه، اقضوا للذليل ولليتيم. أنصفوا المسكين والبائس نجوا المسكين والفقير. من يد الأشرار أنقذوا، لا يعلمون ولا يفهمون. في الظلمة يتمشون. تتزعزع كل أسس الأرض أنا قلت: إنكم آلهة وبنو العلي كلكم، لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون، قم يا الله دن الأرض، لأنك أنت تمتلك كل الأمم“.

 و كما يظهر من المزمور فهو لا يتحدث عن إله واحد يمسك بمصائر البشر و يحددها، بل يتحدث بصيغة الجمع عن آلهة متعددة تجلس في مجمع واحد، و يناجيها و يناشدها بأن تساعد الفقير والمسكين والبائس، و يؤكد هذا الجمع أو التعدد حين يقول “إنكم آلهة و بنو العلي كلكم“، و هذا في حد ذاته كناية عن مفهوم التعدد الواضح وسط نصوص العهد القديم نفسه، بما يؤكد كون الديانة اليهودية قد بدأت كجزء من المفاهيم الدينية المعاصرة لها تاريخيا، وهي في مجملها أديان وعقائد وثنية مبنية على تعدد الآلهة، و لم تكن تعرف معنى التوحيد قبل تفرد الإله يهوه كإله خاص بالقبائل اليهودية يرفض بقية الآلهة و يمنع أتباعه من عبادتها أو حتى الاعتراف بها.

ثم نرى بعد ذلك صفة أخرى يتشابه فيها الإله بعل بالإله يهوه، وهي شرب أو إدمان الخمر، بحيث تصف الألواح الأوغاريتية حب بعل للخمر قائلة :

يضع الكأس بيده ويرويه،
مغرفة بكلتا يديه،
دن من السماوات،
كأس مقدسة
ما رأت مثلها ساقية
وقعت عليها عين
ولا إلاهة.
ألف جرة خمر أخذ،
ومزجها مزجاً وسكب“.

بينما نجد الآية 8 من المزمور 75 تقول : ” لأَنَّ فِي يَدِ الرَّبِّ كَأْساً وَخَمْرُهَا مُخْتَمِرَةٌ. مَلآنَةٌ شَرَاباً مَمْزُوجاً. وَهُوَ يَسْكُبُ مِنْهَا. لَكِنْ عَكَرُهَا يَمَصُّهُ يَشْرَبُهُ كُلُّ أَشْرَارِ الأَرْضِ.

ثم نجد بعد ذلك الآية 65 من المزمور 78 تقول : “ فَاسْتَيْقَظَ الرَّبُّ كَنَائِمٍ كَجَبَّارٍ مُعَيِّطٍ مِنَ الْخَمْرِ. “

و التشابه عند هذه النقطة الأخيرة التي سوف أذكرها، يتجاوز إمكانية الصدفة، حين يظهر”بعل” في أناشيده و هو غاضب من عدم وجود بيت له مثل بقية الآلهة، فأرسلفي طلب الآلهة “عنات” لتطلب من رئيس مجمع الآلهة و كبيرها الإله “إيل” أن يبني له بيتا كبقية الآلهة الأخرى فيقول :

أريد بيتاً مثله لم تر السماء
قصراً مثله لم ير الناس
مسكناً مثله لم تر الجماهير”. 

بينما نجد سفر صموئيل الثاني يقول واصفا حديث يهوه إلى لداوود :

وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى نَاثَانَ:
«اِذْهَبْ وَقُلْ لِعَبْدِي دَاوُدَ هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: أَأَنْتَ تَبْنِي لِي بَيْتاً لِسُكْنَايَ؟
لأَنِّي لَمْ أَسْكُنْ فِي بَيْتٍ مُنْذُ يَوْمَ أَصْعَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، بَلْ كُنْتُ أَسِيرُ فِي خَيْمَةٍ وَفِي مَسْكَنٍ.
فِي كُلِّ مَا سِرْتُ مَعَ جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، هَلْ قُلْتُ لأَحَدِ قُضَاةِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَمَرْتُهُمْ أَنْ يَرْعُوا شَعْبِي إِسْرَائِيلَ: لِمَاذَا لَمْ تَبْنُوا لِي بَيْتاً مِنَ الأَرْزِ؟

تمثال من البرونز المطلي بالذهب يمثل الإله الكنعاني "إيل" جالسا فوق عرشه، تم العثور عليه بمنطقة تل مجيدو الواقعة حوالي 30 كيلومترا جنوب مدينة حيفا الإسرائيلية، و يوجد حاليا بمتحف القسم الشرقي بجامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية.
تمثال من البرونز المطلي بالذهب يمثل الإله الكنعاني “إيل” جالسا فوق عرشه، تم العثور عليه بمنطقة تل مجيدو الواقعة حوالي 30 كيلومترا جنوب مدينة حيفا الفلسطينية المحتلة، و يوجد حاليا بمتحف القسم الشرقي بجامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية.

كل هذا التشابه في الصفات ليس عبثيا و لا مصادفة، بل هو من صميم الأصل التاريخي لإله العهد القديم “يهوه”، و هذا يضعنا وسط مشهد عجيب نرى فيه يهوه و هو يأخذ لنفسه صفات الإله الكنعاني “بعل” واحدة تلو الأخرى، فالكنعانيون أنفسهم في أوغاريت قد عبدوا آلهة سموها ب “الشداي” و “العليون” أو “إيل“، بينما نجد كتبة التوراة أو العهد القديم لم يترددوا في أخذ هذه الأسماء و إسباغها على الإله “يهوه” ، و هذا في حد ذاته هو أصل عملية إنتحال الصفات بين آلهة كنعان و آلهة يهوذا و السامرة، فعندما ينتحل “يهوه” صفات “بعل” و “الشداي” و “العليون” و “إيل”فهو بذلك يلغي الحاجة لوجود هذه الآلهة من الأصل، و يتفرد بنفسه في الصفات الجامعة لكل الآلهة التي كان يقبل بها من قبل و يتعايش معها في البانثيون الكنعاني، و بالتالي فوجوده كإله واحد متفرد يلغي وجود بقية الآلهة الكنعانية التي أخذ كل صفاتها، و هنا بدأت قصة التوحيد و بدأت معها الديانة اليهودية.

في الجزء الثالث من هذا البحث، سوف نتابع بالتفصيل ذلك التماثل الكبير بين الآلهة الكنعانية في أوغاريت و طقوس عبادتها، و بين المفاهيم الدينية التي جاءت بها اليهودية.

مهدي بوعبيد

12/07/2017

يهوه إله العهد القديم … إله أم شيخ قبيلة — الجزء الأول

من هو يهوه .. ؟؟!!!
من أين أتى إله العهد القديم و ما الذي جعل القبائل اليهودية في يهوذا و السامرة تختاره إلها خاصا بها .. ؟؟!!!
ما هو موقع هذا الإله في وسط حضارات الشرق الأوسط المتقدمة آنذاك ..؟؟!!!
كيف تحول هذا الإله من موقعه وسط تاريخ ضخم من الآلهة و الأديان المختلفة التي تسبقه بآلاف السنين إلى إله وحيد متفرد فوق الجميع.
خارطة تخيلية لممالك إسرائيل حسب الأساطير التوراتية
خارطة تخيلية لممالك إسرائيل حسب الأساطير التوراتية.

لم يكن “يهوه” سوى جزء صغير جدا من مجمع الآلهة الكنعاني و الفينيقي في التاريخ القديم، و لم يكن بالتأكيد على نفس مستوى التقديس الذي كانت عليه بقية مجمعات الآلهة التي عرفتها الحضارات الأخرى في منطقة الشرق الأوسط، مثل مردوخ البابلي و إنكي أو إنليل السومري و بعل الكنعاني،  و عندما تبنته قبائل البدو اليهودية كإله متفرد في المرحلة الأولى و ليس وحيد، كان موقعه ضئيلا جدا بالمقارنة مع باقي الشعوب المتقدمة جدا على المستوى الحضاري و التاريخي و المعرفي، و هذا راجع بالتحديد لموقع تلك القبائل التي لم تعرف أي نزعة قومية أو حضارية او دينية تذكر قبل ذلك، فهي مجموعات بشرية كانت تعيش حياة الرحل و تمتهن الرعي كنشاط إقتصادي رئيسي الى جانب نسبة قليلة من الزراعة و هذا راجع بالأساس لطبيعة الأرض الصخرية و التربة الغير خصبة لمنطقة فلسطين أو كنعان قديما، و سياسيا لم تعرف نزعات قومية حقيقية نجحت في تشكيل دولة بمعنى الكلمة أو حتى إمبراطورية كما يدعي التوجه الصهيوني اليوم، فحتى في أوج إزدهار المنطقة لم تتجاوز البنية السياسية لهاته القبائل مفهوم الدولة-المدينة، التي لا تتجاوز حدود سلطتها 100 كيلومتر في محيط المدينة، على عكس ما يصر عليه اليهود اليوم حين يحاولون فرض الأساطير التوراتية كحقائق تاريخية فعلية، فعلم التاريخ و علم الآثار اليوم قد أعاد النظر تماما في روايات مملكة داوود و سليمان و شاؤول، التي لم يجد دليلا واحدا يؤكد وجودها، و لا حتى عملة معدنية واحدة مسكوكة، أو نقش عابر مطمور فوق شاهد قبر أو حائط معبد.

تمثال صغير للإله الكنعاني بعل محفوظ حاليا بمتحف اللوفر بالعاصمة الفرنسية باريس
تمثال صغير للإله الكنعاني بعل محفوظ حاليا بمتحف اللوفر بالعاصمة الفرنسية باريس
هذه البنية السياسية الشبه غائبة و الضعيفة في نفس الوقت كانت محاطة بحضارات و إمبراطوريات مغرقة في القدم و متأصلة في صفحات التاريخ البشري المعروف حينها، فإلى الشمال من أرض كنعان نجد الحضارة الفينيقية التي تعود أصولها الأولى لأكثر من 4000 سنة قبل الميلاد، و قد استوطنت الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط (سوريا، لبنان و فلسطين الحالية) و امتد مجال انتشارها ليغطي كا فة شواطئ حوض البحر الأبيض المتوسط، بما فيها سواحل جنوب أوروبا و شمال إفريقيا وصولا للواجهة الأطلسية على سواحل شبه الجزيرة الإيبيرية الغربية و سواحل المغرب الأقصى،  و إلى الشرق هناك بابل بكل عظمتها و هي وريثة سومر و آكاد التي تعود في أقل تقدير أركيولوجي لأكثر من 4000 سنة قبل الميلاد، و إلى الجنوب نجد مصر القديمة التي يعود تاريخها العريق لحوالي 3150 سنة قبل الميلاد شهدت خلالها مرور  أكثر من 30 أسرة حكمت وادي النيل في استقرار سياسي شبه متواصل و تطور و رقي حضاري كبير ما زالت معابده و أهراماته تعجز العقل البشري حتى اليوم. هذه البوثقة الضخمة شكلت وعاء كبيرا إحتوى شعوبا و أمما عديدة عاشت و تمازجت تحت حضارات مختلفة تميزت بتطور بنيات سياسية و عسكرية و إقتصادية و تجارية و اجتماعية متقدمة، نتجت عنها إمبراطوريات ممتدة في جغرافيا العالم القديم المعروفة، هاته الجغرافيا التي كانت بالتأكيد أكثر اتساعا و امتدادا مما نتخيله اليوم، و كان من الطبيعي جدا أن تطور هذه الحضارات تصوراتها الخاصة بعالم الآلهة و الأديان و الطقوس التي عبدتها بها، و كان من المنطقي أيضا أن ينتج عن هاته التصورات كم ضخم من المرويات و الأدبيات المنقولة شفهيا و المكتوبة على حيطان المعابد و القصور و أوراق البردي و الألواح و الرقيمات الطينية، و في إطار هذا التمازج لم يكن من الغريب أن لا تنتقل هاته المرويات بين الشعوب، عابرة هي أيضا عبر طرق التجارة التي ربطت بين هاته الحضارات، فعلى سبيل المثال علماء التاريخ يؤكدون اليوم و بالأدلة المادية و الاكتشافات الأركيولوجية الموثقة، أن حضارة وادي الإندوس قد عاصرت الحضارات السومرية و كانت لدي الإثنين علاقات إقتصادية و تجارية متقدمة، بحيث كانت تبحر السفن من مدن Mohenjo Daro و Harappa المطلة على نهر الساراسواتي العظيم عابرة النهر في إتجاه مصبه على المحيط الهندي لتدخل الخليج الفارسي و تتقدم وصولا حتى مصب نهري دجلة و الفرات، لتتبادل السلع و البضائع مع سكان مدن أور و إيريدو و أوروك. و قد وجدت عدة أختام طينية صغيرة في قلب أور العراقية، تتشابه بشكل مطابق مع أختام طينية عثر عليها علماء آقار بريطانيون في مدينة موهنجو دارو، مما يؤكد كونها قد كانت تستخدم لتحديد نوعية السلع التي كان يتم تبادلها بين سومر و وادي الإندوس. و هذا أبسط مثال عن مدى امتداد جغرافيا العالم القديم، و مدى إختلاط الحضارات فيما بينها، و توجد شواهد عديدة عن كون هذا الإختلاط قد إمتد تاثيره خارج مدى التبادل التجاري، ليصل للمستوى المعرفي و اللغوي و الديني، و ذلك رغم آلاف الأميال التي تفرق بلاد الرافدين و شبه القارة الهندية.
خريطة مفصلة توضح إمتداد الطرق التجارية بين مدن حضارة وادي الإندوس و حضارة سومر.
خريطة مفصلة توضح إمتداد الطرق التجارية بين مدن حضارة وادي الإندوس و حضارة سومر.
و  بالتالي فإن هاته المرويات قد شكلت فيما بعد تلك الملاحم الأسطورية الرائعة و المدهشة و التي اختلطت في تفاصيلها المتشعبة تقاطعات متواصلة بين الآلهة و انصاف الآلهة و البشر، و عبرها تناقلت مختلف تلك الحضارات قصصا مثيرة حول التكوين الأولي و خلق البشر و الطبيعة بكل مكوناتها، ثم علاقات الآلهة بقدراتها المعجزة بالبشر و نتيجة لهاته العلاقات المتداخلة وصلتنا قصص آدم و حواء و الإغواء بالأكل من شجرة الخلود أو المعرفة عبر الأفعى، ثم الطرد من الفردوس الأبدي و التيه في الأرض، إلى جانب قصص الطوفان و فناء الجنس البشري إلا من إختارتهم الآلهة، إلى غير ذلك من القصص التي تملأ اليوم صفحات كتب الديانات الإبراهيمية الثلاث، فكل هاته القصص ليست سوى نتيجة الخيال البشري خلال مروره من مختلف مراحل تطور وعيه و محاولاته المتواصلة لفهم العالم.
و لنا أن نتخيل وضع قبائل يهوذا و السامرة وسط هذا الخليط المثير، و هي قبائل بدوية من الرحل يعيشون على الرعي و شيء من الزراعة، و هم يتعرضون للغزو المتواصل من طرف هاته الشعوب المتفوقة عليهم و المحيطة بهم من كل حدب و صوب، و لا يخرجون من نير احتلال إلا ليعودوا لآخر أشد و أنكى، فلا سبيل لهم للتوحد إلا بإيجاد رابط ثابت يمنحهم شيئا من التفوق أمام أبناء مردوخ و عشتار و بعل و رع، و قد كان يهوه و فكرة الإله المتفرد هي أول ما لجأوا إليه لتحقيق شيء من ذلك.
الأختام الطينية التي عثر عليها في بقايا موهنجو دارو و هارابا و أور السومرية.
و من الضروري هنا أن اؤكد على نقطة مهمة فيما يخص الأساطير التي تشكلت عبرها الفكرة القومية لدى القبائل اليهودية، و هي ترتبط بالتقاليد التوراتية أكثر من إرتباطها بالحقائق التاريخية المجردة و يمكن تلخيصها في حدثين مهمين، و هما ظهور شخصية موسى كنبي محرر و موحد للقبائل اليهودية و الخروج الكبير من مصر و هاتين النقطتين تشكلان الأساس الصلب الذي بنيت عليه القومية اليهودية حتى اليوم، رغم أن كافة الأبحاث الأركيولوجية و التاريخية الضخمة و العديدة التي قام بها علماء الآثار الأوروبيين و الإسرائيليين منذ القرن التاسع عشر و حتى الآن لم تنجح في إيجاد دليل مادي واحد يؤكد تفصيلا أو حدثا واحدا أو شخصية بعينها مما ترويه كتب العهد القديم و الجديد و نفس هذه الأبحاث التاريخية و الأركيولوجية تؤكد لنا اليوم أن إنبثاق الشعب اليهودي لم يحدث من عدم و لم يرتبط بما روته التوراة عن العبودية في مصر ثم مجيء النبي المحرر و الخروج من أرض الفرعون، بل من مسار تطوري للقبائل الكنعانية التي سكنت منطقة الشام و البادية السورية و أرض فلسطين حتى صحراء النقب جنوبا.
و خلال هذا النسق فإن القومية اليهودية لم تنبني بداية على مفاهيم دينية أو إلهية، فالقبائل اليهودية التي كانت تعيش حياة الرحل طيلة قرون وهي تتنقل بين مختلف مناطق الشرق الأوسط كانت تفتقد لشرط أساسي لتحقيق تراكم معرفي و ثقافي و فكري يسمح بتشكيل رؤية دينية محددة، و هو الإستقرار، و بالتالي كانت تتشرب أديان و آلهة الشعوب التي تختلط بها في ترحالها بحثا عن المراعي و نقط الماء، و قد عاشت فترة طويلة وسط التعدد الديني و الإلهي، و عبدت آلهة مختلفة من الحضارات المحيطة بها و التي تعاملت معها سواء في نسق الترحال المتواصل، أو نتيجة الغزو العسكري المباشر.
عند هذه المرحلة المهمة لم يكن “يهوه” إلها متفردا بموقعه و صفاته، بل مجرد إله واحد وسط مجمع كبير يتشكل من آلهة أقدم منه، و تمثل حضارات تتحرك داخل بنيات معرفية و سياسية و عسكرية و تاريخية قائمة بذاتها و تجر وراءها تاريخا عريقا و ممتدا و شواهده حاضرة للعيان، و لذلك كان هذا الإله أقرب لشيخ قبيلة يمثل شعبا بعينه و أمة واحدة دون غيرها من الأمم، و هنا نجده يقبل تماما بوجود آلهة أخرى مختلفة عنه و يقبل أيضا بوجود شعوب عديدة و لكل منها آلهتها الخاصة و دياناتها المختلفة. التي و إن إختلفت فهي ترمز لنفس المفاهيم التي عبدها الإنسان و منحها تصورات خاصة بها منذ الأزل، مثل الخصوبة و المطر و النار و القمر و الشمس. و بتطور السياق الإجتماعي و السياسي و الإقتصادي لهاته القبائل التي تحولت من الترحال لشيء من الإستقرار الذي رافقه تغيير كبير في النشاط الإقتصادي، من الرعي لممارسة الزراعة، تطور وضعها أيضا من تلك القبائل التائهة الباحثة عن المراعي إلى حالة القومية الناشئة التي تسعى للتحول للدولة المدينة، و هذا التطور الطبيعي جدا في المسار التاريخي للشعوب ليس بالشيء الغريب أو المستحيل، فهو نفس ما حدث مع كافة التجمعات البشرية الأولى التي قررت في مرحلة ما من العصر الباليوليثي الأعلى أن تخرج من وضعية الصيد و الإلتقاط و الترحال المتواصل بحثا عن الطرائد لتدخل في مرحلة الإستقرار الأولي على جنبات الأنهار، و هذا التحول في نمط العيش هو ما شكل البدايات الأولية لظهور مستوطنات بشرية كانت عبارة عن صيادين تحولوا فيما بعد لمزارعين بعد إكتشاف الزراعة و ما توفره موارد أكثر للعيش، و لعل هذا ما يفسر اليوم كيف أن أولى الحضارات البشرية قد تطورت على ضفاف الأنهار حصريا، كما حدث مع الحضارة السومرية في بلاد الرافدين و بالتحديد في المنطقة الواقعة ما بين نهري دجلة و الفرات، أو حضارة وادي الإندوس في باكستان الحالية و التي ظهرت على ضفاف نهر الساراسواتي العظيم الذي كان ينبع من سفوح جبال الهملايا و يمر عبر وادي السند ليصب في المحيط الهندي جنوبا، ثم جف و تحول لشبه صحراء قاحلة بعد ذلك، أو حضارة مصر القديمة التي لم تكن لتظهر و تتطور لما نعرفه عنها اليوم لولا نهر النيل العظيم.
و خلال هاته المرحلة الأخيرة تحول يهوه من إله خاص بقبائل يهوذا و السامرة، لإله خاص بالقومية اليهودية، لكنه دخل مرحلة التوحيد التام و الفعلي حين أعلن عن نفسه بأنه إله شعبه المختار لكنه يتجاوز نسق التفرد او التفريد مع القبول ببقية الآلهة التي يعبدها البشر، ليصبح ذاك الإله الوحيد المتعالي فوق الجميع و الذي لا يقبل بتاتا أن يتشارك موقعه و مكانته مع باقي الآلهة، فيصبح الإله الوحيد الذي يجب أن يعبده الجميع حصريا و يقروا بوحدانيته و ملكوته على كل الكائنات.
في الجزء القادم سوف من هذا المقال، سوف ناعرف بالتفصيل على الأصول التاريخية للإله “يهوه”، و كيف تحول من آلهة مغمورة للهواء و العواصف و الرعد، لإله واحد متفرد فوق لكل البشر بدون إستثناء.
مهدي بوعبيد
02/03/2017