الأديان الإبراهيمية : التوحيد تعبير عن طموح سياسي و ليس رغبة إلهية

بالنسبة للأديان الإبراهيمية الثلاث، لا يمكن فصل الإرتباط الضمني بينها و بين القوميات التي نشأت فيها أو الإمبراطوريات التي أنشأتها، كما لا يمكن التعطي معها بمعزل عن السياق التاريخي و المعرفي و السياسي و الإقتصادي الذي ظهرت فيه، فالحاجة للتخلي عن تعدد الآلهة الوثنية و تعويضها بإله واحد يجتمع تحته الكل و يستسلمون لإرادته، هي حاجة سياسية و قومية أولا، و هي جزء أساسي من عملية تجديد المعرفة البشرية المتوفرة في مرحلة تاريخية معينة، قبل أن تكون فعلا إلهيا خالصا.
في حالة اليهودية مثلا، كان التحول من الإله بعل الكنعاني الذي عبدته قبائل يهوذا و السامرة المشتتة في أرض كنعان، إلى الإله يهوه YHWH المتفرد وسط باقي مجمع الآلهة المعروف حينها في منطقة الشرق الاوسط، و الذي كان خليطا بين آلهة بابل و سومر و آكاد و مصر القديمة، و هي كلها حضارات تميزت بوجود سلطة سياسية مركزية، تفرض إرادتها في إطار علاقة تكامل تام بين الحاكم و الآلهة التي يتحدر من نسلها حسب الأساطير و الملاحم و المرويات التراثية لشعوب تلك المنطقة، و عندما أعلن يهوه عن نفسه لهذه القبائل عبر الأنبياء، كان هذا التجلي عبارة عن دعوة مرحلية لتوحيد هاته القبائل في قومية واحدة تجتمع كلها بالخضوع و تتحد خضوعا لإرادته, و من ثم قام هذا الإله المتفرد و الجديد بمكافأة هاته القبائل و الأجيال القادمة المنبثقة منها بمنحها أرض كنعان، أرض أنهار العسل و اللبن، حيث أمرهم ببناء أول منزل له و هو الهيكل القديم، و كأنها صفقة يجتمع فيها الطرفان بما يحقق مصلحتيهما بالدرجة الأولى، و أكثر ما يعبر عن كون اليهودية دعوة قومية أكثر منها دينية، هو كمية الغضب و السعار التي تميز بها الإله يهوه في نصوص العهد القديم، فهو إله غاضب دوما، و يهدد و يتوعد كل من يقترب من شعبه المختار بنصف كلمة، و لا يتردد في التعبير عن مستويات مرعبة من العنصرية التطرف تجاه باقي البشر، حين يعتبرهم أقل قيمة بل أقل بشرية من أبناءه، بني إسرائيل، وصولا لدرجة اعتبارهم هم و أسرهم و أولادهم و نسلهم من بعدهم، مجرد عبيد و خدم عند شعبه المختار، يزرعون أراضيهم و يحصدون زرعهم و يعصرون نبيذهم، و بذلك تشكل العهد الإلهي الأول بين بني إسرائيل و الإله المتفرد العنصري و الغاضب دوما ضد كل البشر بإستثناء شعبه المختار.
أيقونة قبطية تصور النبي - الملك داوود.
أيقونة قبطية تصور النبي – الملك داوود.
أما في حالة المسيحية، تلك الديانة التي اخترعها بولس الرسول، لأن عيسى المسيح لم يأت بدين جديد، بل برؤية جديدة للإله يهوه الذي خرج من ثوب القومية اليهودية، إلى الآب الذي يجتمع تحت إرادته كل البشر بغض النظر عن أصولهم الإثنية و القومية، نجد أنه لم تكتسب هذه المسيحية أي زخم إيماني حقيقي في العالم القديم، إلا بعد أن قرر الإمبراطور  الروماني قسطنطين اعتمادها كديانة رسمية لدولته، بعد أن حلم بالصليب نازلا من السماء قبل إحدى معاركه المهمة، و اعتبر هذا الحلم علامة من السماء على ضرورة إتباع المسيحية كدين رسمي لدولته، و يمكننا القول هنا أن دعوته لتشكيل مجمع نيقية Consul de Nicée عام 325 للميلاد، كانت وراءها إرادة سياسية فعلية لإختراع ديانة جديدة تتوحد تحتها كل الشعوب و القوميات الواقعة تحت حكم روما السياسي و العسكري، بغرض تثبيت مشروعية الإمبراطور الذي حلم بالصليب ليلة معركة عسكرية حاسمة، و لم يكن هدفه تحقيق إرادة الإله المتفرد على الأرض، بل تدعيم سلطته السياسية أولا، و توحيد القوميات المتنافرة داخل إمبراطوريته داخل تناغم ديني واحد يمثل إرادة سياسية رغم التباعد الجغرافي بين الشعوب الواقعة تحت سلطته، و لعل هذا هو السبب الرئيسي الذي جعل مجمع نيقية يعيد تشكيل شخصية عيسى المسيح من جديد، عبر إدخال تفاصيل مأخوذة من شخصيات الآلهة الوثنية القديمة التي عبدتها نفس الشعوب و القوميات الواقعة تحت الحكم الروماني مثل الإله الهندو-إيراني ميثراس، و الإله المصري القديم حورس، إذ أن شخصية المسيح حينها لم يكن لها نفس البعد الشبه أسطوري الذي نعرفه اليوم، و لأن الهدف هو توحيد الشعوب و القوميات تحت إرادة سياسية واحدة عبر الدين الجديد، كان من الضروري تقديم شخصية النبي المخلص بشكل يجعلها قريبة من الشخصيات الأسطورية و الدينية الوثنية المعروفة في العالم القديم.
لوحة حائطية من رسم الفنان الإيطالي RAFFAELLO في القرن السادس عشر الميلادي في ما يسمى بقاعة قسطنطين Sala di Constantino في مبنى الفاتيكان, اللوحة تصور حلم قسطنطين الذي رأى فيه الصليب نازلا من السماء.
لوحة حائطية من رسم الفنان الإيطالي RAFFAELLO في القرن السادس عشر الميلادي في ما يسمى بقاعة قسطنطين Sala di Constantino في مبنى الفاتيكان, اللوحة تصور حلم قسطنطين الذي رأى فيه الصليب نازلا من السماء.
إن ظهور المسيحية و تبلورها كدين توحيدي ليس إلا نتيجة منطقية للإمتداد السياسي و العسكري للإمبراطورية الرومانية، و ليس تحقيقا إعجازيا لإرادة إلهية، و حتى قبل العام 325 ميلادي، كانت الديانة الأكثر انتشارا في الإمبراطورية هي الميثرائية، حيث امتدت عبادة ميثرا من شب القارة الهندية شرقا، إلى حدود إلى ألمانيا في أقصى شمال أوروبا و وصولا لإسبانيا في أقصى الغرب، و لا زالت معابد الميثرايوم Mithraeum شاهدة على مدى إنتشار هذه الديانة في العالم القديم. و حتى إعادة تجميع و تصنيف الأناجيل بين 4 أناجيل رسمية معترف بها، و أناجيل أبوكريفية منحولة أو غير معترف بها تم تدمير و إحراق أغلبها و منع تداولها، هو تصرف يحطم أسطورة الوحي الإعجازي بين السماء و البشر، فلا شيء يؤكد سماوية الأديان الابراهيمية بشكل مطلق غير معجزة الوحي و حديث الله مع البشر سواء الأنبياء أو القديسين من بعدهم، و متى تحطم هذا الرابط الإعجازي المقدس تبعا لما تؤكده التفاصيل التاريخية و اللقى الأثرية و الأركيولوجية، تعود هاته الأديان لموقعها الحقيقي، و هو كونها مجرد معرفة بشرية تطورت عبر مراحل الوعي البشري، لتتحول من مجرد محاولة بدائية لتفسير العالم الغامض المجهول من حولنا، إلى أداة أساسية و ضرورية من أدوات السياسة و تسيير الإمبراطوريات و القوميات.
منحوتة تعود للحقبة الرومانية تمثل الولادة المعجزة للإله ميثرا من الصخرة، و قد عثر عليها شمال بريطانيا و توجد حاليا بمتحف نيوكاسل.
منحوتة تعود للحقبة الرومانية تمثل الولادة المعجزة للإله ميثرا من الصخرة، و قد عثر عليها شمال بريطانيا و توجد حاليا بمتحف نيوكاسل.
و لا يختلف المشهد في حالة الإسلام إلا في بعض التفاصيل البسيطة، فهذا الدين نفسه لم ينشأ من فراغ، بل هو مجرد تكملة لما جاءت به اليهودية و أخذته عنها المسيحية، ليكمل الإسلام الطريق في نفس السياق، مقدما نفسه على كونه الرسالة النهائية من السماء للبشرية كلها، أي أنها آخر محاولة من الله للحديث مع البشر لشرح إرادته و كيفية تنزيلها على الأرض، بينما مجمل أحكامه و تشريعاته هي في أصلها مجرد نقل حرفي و عشوائي من اليهودية، و منطقيا لا شيء يميز الإسلام عما سبقه بما يفسر ضرورة كونه آخر ما أنزل من السماء، بينما أغلب مفاهيمه و تشريعاته هي نقل حرفي من أول ديانة عرفها البشر.
و على الجانب السياسي و الإجتماعي لم تكن دعوة محمد بن عبد الله إلا ترجمة مباشرة لإرادة سياسية بتشكيل ملك كبير تتوحد خلفه القبائل العربية البدوية المشتتة بين نجد و الحجاز و اليمن و جنوب الشام و العراق، و هي إرادة حاول جد النبي محمد الرابع قصي بن كلاب تحقيقها على الأرض قبل ظهور الإسلام بقرنين من الزمن معتمدا على تحالفات عسكرية و اقتصادية و سياسية بين قبائل العرب و بين الإمبراطورية الرومانية و الفارسية، و ذلك عبر تأمين خطوط القوافل، و تكريس سيطرة قريش على الكعبة و الحج و ما يخرج و يدخل الجزيرة العربية من تجارة و موارد و سلع، و ذلك بحكم موقع مكة الجغرافي ، و قد حاول جده الأول عبد المطلب أيضا تحقيقها وسط قريش بعد ذلك، لكنه كان يفتقد الموارد المالية و الكاريزما السياسية الضرورية لفرض رؤيته على الملأ المكي.
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يلقي خطبة حجة الوداع
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يلقي خطبة حجة الوداع
و قد جاء في السيرة الحلبية، و سيرة ابن هشام، قول النبي محمد لملأ قريش المكي : ” أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم، هل تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب و تدين لكم بها العجم .. ؟؟!!”، فعندما يصدر عن محمد مثل هذا القول، فهو لا يعبر عن إرادة الله على الأرض، بل يفصح عن الهدف الحقيقي من وراء دعوته لدين جديد، إنه هدف سياسي و قومي أولا قبل أن يكون دينيا، فهو يتحرك وسط قبائل و تجمعات بشرية تفتقر إلى كيان سياسي يعبر عنها كقومية مستقلة، و تعيش تحت ولاءات متفرقة حسب موقعها الجغرافي، بين الإمبراطورية الفارسية و الرومانية، و هما دولتان قويتان حاربتا بعضهما البعض طيلة قرون طويلة، و هاته الحرب الطويلة جدا قد أنهكتهما عسكريا و سياسيا و ماليا، و بدأت سيطرتهما السياسية على قبائل جنوب العراق و جنوب الشام و نجد و الحجاز ترتخي و تنسحب شيئا فشيئا، مما شكل فراغا سياسيا متاحا تماما أمام من يريد أن يتحرك ليحتله و يفرض نفسه، و لم يكن ذلك ليتحقق دون دعوة دينية توحد الشتات القومي للقبائل تحت فكرة مقدسة واحدة، منبثقة من معجزة الوحي الإلهي الذي اختص به رجلا واحدا من وسط قبيلة تملك شأن العرب اقتصاديا و دينيا لكونها تسيطر على الكعبة، موطن آلهة العرب الوثنية المتعددة، و موسم الحج السنوي هو التطبيق الفعلي لهذا الملك المعنوي الطي لم يكن قد تم تكريسه سياسيا بعد، بالإضافة لإيلاف قريش و رحلتي الصيف و الشتاء للتجارة مع الشام و اليمن، (الذي ذكره محمد في القرآن كمعجزة إلهية اختص بها الله قبيلة قريش دونا عن باقي قبائل و بطون العرب)، و ما حديثه عن تملك شأن العرب و العجم عبر دعوته الدينية إلا تعبير واضح و جلي عن الإرادة السياسية المتخفية وراء هذا الدين الجديد.
و هو نفس ما يؤكده عتبة بن ربيعة لقريش حين التقى بمحمد و استوعب عمق و كنه دعوته فقال لهم : ” يا معشر قريش، أطيعوني و اجعلوها بي و خلو ما بين هذا الرجل و ما هو فيه، فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم و إن يظهر على العرب فملكه ملككم و عزه عزكم، و كنت أسعد الناس به ” و لسنا في حاجة لتفسير ما يقصده الرجل بجملته هذه، فمن الواضح أنه يتحدث عن أمر الملك و ليس الدين.
و تحضرني هنا قصة عجيبة في غزوة الخندق، حيث يقول إبن هشام في سيرته عن سيرة إبن إسحاق : ” وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت علي صخرة، ورسول الله ﷺ قريب مني، فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى.

قال: ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، قال: قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت، لمع تحت المعول وأنت تضرب؟

قال: «أوقد رأيت ذلك يا سلمان؟» قال: قلت: نعم.

قال: «أما الأولى فإن الله فتح علي باب اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح علي باب الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق».

منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يتلقى الوحي من جبريل في غار حراء.
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يتلقى الوحي من جبريل في غار حراء.
محمد في هذا السياق، يواجه غزوا عسكريا من الملأ المكي، يهدده بحصار طويل، و بتحالف ضخم بين القبائل و معىيهود المدينة بغرض القضاء على دعوته، و أصحابه في ضيق من الحال و ضنك و فقر و جوع نتيجة الحصار، بينما نراه يستغل حادثة بسيطة جدا خلال حفر الخندق لصد الغزو، ليحولها لنبوءة إلهية بفتح قصور الحيرة في العراق و مدائن كسرى في فارس و حواضر الروم في الشام، و تصرفه و حديثه هذا ينم عن ذكاء سياسي كبير جدا و كاريزما قوية جدا تظهر في وضع من الضعف و الهوان قد يؤثر على نفسية أصحابه و قومه، فيلجأ هو لدعمهم نفسيا بإثارة حلم ملك سياسي ممتد خارج حدود إمكانياتهم العسكرية و السياسية، و هو بذلك يستعمل الآلهة بشكل مغرق في البراغماتية إلى أقصى الحدود، تماما كما فعل إبراهيم و موسى و سليمان و داوود مع بني إسرائيل حين ربطوا بين الإله يهوه و القومية اليهودية الناشئة وسط قبائل بدوية تعيش حالة من الضآلة و هي شبه محاصرة وسط حضارات العالم القديم حينها (بابل و آكاد و آشور و مصر القديمة)، و كما فعل قسطنطين حين ادعى أنه قد حلم بصليب نازل من السماء و قد كتب عليه (بهذا تغلب).
كما يؤكد هذه الرؤية السياسية جد النبي محمد، عبد المطلب حين يقول عن أولاده و أحفاده مفاخرا بهم قريش : ” إذا أحب الله إنشاء دولة، خلق لها أمثال هؤلاء” و هذه جملة تحمل من التمني و الطموح السياسي الشيء الكثير، قبل حتى أن تبدأ دعوة محمد للدين الجديد، و لعل أكثر من فهم هذا الأمر و عبر عنه بوضوح، هو أبو سفيان، رأس بني أمية حين قال لعثمان بن عفان بعد توليه الخلافة بعد مقتل عمر بن الخطاب : ” لقد صارت إليك تميم و عدي ( من كبريات قبائل العرب) فأدرها كالكرة و اجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو الملك و لا أدري ما جنة و لا نار ” (المصدر : السيرة الحلبية)، و الرجل هنا يتحدث بصراحة عن رؤيته الحقيقية لدعوة محمد بتجرد و واقعية عميقة، بكونها إرادة ملك و سياسة أولا، و الجزء الغيبي أو الديني منها لا يهمه و لا يعترف به حتى، و هو ما تأكد فعليا على الأرض حين أحاط عثمان بن عفان نفسه ببني قومه من بني أمية ثم ولاهم كل شيء حتى إنتهى الأمر بتلك الفتنة التي نعرفها جميعا، كما تأكدت الرؤية نفسها فيما بعد بانتهاء مفهوم الخلافة و تعويضه بالملك الوراثي عبر إبنه معاوية بن أبي سفيان و هو الملك الذي تحول بعد ذلك لدولة حقيقية لم يتردد ملوكها و سادتها و قادة جيوشها في فرض سلطتها على القومية العربية الناشئة بالقوة العسكرية (موقعة الحرة و كربلاء و محاصرة الحجاج لابن الزبير في مكة).
كما رأينا فإن نشأة و ظهور الأديان التوحيدية لا يحمل من الإعجاز الإلهي إلا فكرة الوحي، أو حديث الله مع الأنبياء و القديسين، و هو إعجاز متجاوز اليوم تماما بحكم المنطق، خاصة إذا ما وضعت النصوص المقدسة تحت مجهر الفكر النقدي و التحليلي، بل حتى تحت مجهر الفلسفة (حيث يظهر الدين كمحاولة بدائية للتفلسف في مواجهة الطبيعة)، أما ما تبقى خارج الوحي، فهو ليس إلا حتمية سياسية ناتجة عن معطيات جغرافية و ديموغرافية و إقتصادية و معرفية منفصلة تماما عن السماء و من يسكنها، فحيث تتكون تجمعات بشرية تتقاسم نفس المجال الجغرافي و الثقافي و المعرفي، و نفس الموارد و الأنشطة الإقتصادية، يكون من المنطقي تماما أن تتشكل حولهم إرادة سياسية لتوحيد هاته التجمعات في كيان قومي واحد، يعبر عن طموحات هاته التجمعات في السيطرة الفعلية على هذا المجال الجغرافي و ما يحتويه من موارد و أنشطة و ثقافة و معرفة و تجاذبات، و يصبح التوحيد هنا بمثابة هروب من التفرقة الإجتماعية و السياسية التي تنتج عادة عن تعدد الآلهة الوثنية التي عبدها البشر منذ بداية العصر النيوليثي (حوالي 6000 – 7000 سنة قبل الميلاد)، حيث تعددت الآلهة بتعدد مكونات التجمعات البشرية البدائية، و بتعدد مكونات المجال الطبيعي و الجغرافي الذين تعيش فيه.
رسم لقطعة من جرة فخار وجدت بمنطقة كونتيلة عجرود بسيناء يبين تصورا للإله يهوه و زوجته عشيرة، القطعة موجودة حاليا بمتحف الأركيولوجيا بجامعة تل أبيب.
رسم لقطعة من جرة فخار وجدت بمنطقة كونتيلة عجرود بسيناء يبين تصورا للإله يهوه و زوجته عشيرة، القطعة موجودة حاليا بمتحف الأركيولوجيا بجامعة تل أبيب.
إن التوحيد بكونه إلغاء تاما و نهائيا لتنوع و تعدد الآلهة الوثنية، هو سعي محموم لاكتساب أدوات القوة و الإرادة السياسية و العسكرية عبر دمج مكونات المجتمعات البشرية في بوثقة واحدة، تتحرك داخل مجال موحد، بطموحات من يملكون زمام الأمور السياسية، بعيدا عن الآلهة و ما أوحت به لمن اصطفتهم من البشر، و لعل هذه النقطة بالذات هي ما يفسر كون معظم أنبياء بني إسرائيل قد كانوا ملوكا يسعون لتمكين حكمهم على شتات قبائل يهوذا و السامرة على أرض كنعان القديمة، و هو ما يفسر كون الديانة المسيحية قد انتظرت ما يناهز الأربعة قرون لتتشكل في صورتها الحالية، و لم يتحقق ذلك إلا  بإرادة الإمبراطور قسطنطين العظيم الذي رأى فيها أداة سياسية كفيلة بتقوية سلطته و حكمه، و هو يفسر كون الدولة الأموية كترجمة لظهور قومية جديدة في منطقة الشرق الأوسط قد بدأت بعد 41 سنة من هجرة محمد من مكة إلى المدينة، إن الأديان التوحيدية كلها ليست إلا نتاجا سياسيا طبيعيا تماما للبيئة التي ظهرت فيها، و لا دخل لرغبات و إرادة الآلهة في ظهورها.
مهدي بوعبيد
21/06/2018

محمد والبحث المحموم عن التحالفات السياسية … براغماتية نبي … !!!‎

عند محاولة دراسة و تحليل التاريخ الإسلامي المدون، تخرج بخلاصة أساسية مفادها أن مصداقية كل ما كتب من تفاصيل في هذا التاريخ تساوي صفرا المفهوم العلمي، بداية مما كتب من سيرة محمد و تفاصيل دعوته و حروبه وغزواته و صراعاته مع الملأ المكي و حتى وفاته، فالرجل يتجاوز تفاصيل التاريخ المنطقية ليتحول إلى أسطورة حقيقية، ترافقها أحداث و شخصيات تتجاوز حدود ما يعترف به العقل، لتخرج إلى فقاعة الغيبيات التي ما فتئت تتضخم مع كل محاولة للإحاطة بشخصيته.

تاريخنا لم يكتب كشهادة على عصور معينة برواية تفاصيل الأحداث و الشخصيات و تقاطعاتها و صراعاتها السياسية و الدينية و الاجتماعية و الاقتصادية، بل ارتبط دوما برغبة محمومة في تعظيم شأن هاته الشخصيات في كل فترة زمنية ظهرت فيها وذلك عبر إحاطتها بسياج عال من الأساطير و الأفعال و الأقوال التي يعجز العقل عن القبول بها كجزء من الواقع. و البداية كانت مع محمد بالذات، فقراءة السيرة النبوية مهمة مضنية و معقدة من فرط المجهود الضخم الذي قد يبذله كل من يسعى لفهم الأحداث بمنظور العقل المتجرد و الموضوعي، ناهيك عن التضخم الغير مبرر في كم الكتب و النصوص التي تتحدث عن الرجل، و تزخر بكمية مرعبة من التفاصيل و التقاطعات المتناقضة فيما بينها.

منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يلقي خطبة حجة الوداع
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يلقي خطبة حجة الوداع

محمد كشخص قد تجاوز الحدود البشرية في التاريخ الإسلامي ليتحول إلى أسطورة ضخمة و متعددة الصفات و الأوجه، فمن جهة لا يمكننا أن ننكر أن الرجل قد كان بالدرجة الأولى ثائرا و متمردا على المفاهيم والنظم الإجتماعية و الدينية للمجتمع الذي ولد ونشأ فيه، و هو بهذا الشكل قد يحمل صفة المصلح الديني و الإجتماعي مثل العديد من الشخصيات التي سبقته (زرادشت، بوذا، ماني .. )، لكنه كان في نفس الوقت رجل سياسة براغماتي جدا و انتهازي بشدة في مراحل متعددة من صراعه مع قريش وسادتها، وهي المعارض الأول لمحاولته الإصلاحية، بل حتى مع قبائل يهود يثرب و زعمائها، فقد سعى محمد لتشكيل التحالفات السياسية و العسكرية و الإقتصادية حتى مع أولئك الذين كان يعرف يقينا أنهم يعادون حركته في سرهم و يظهرون له غير ما يبطنون، فدعوته لرهط من أصحابه للهجرة للحبشة لم تكن سوى سعيا وراء إمكانية تحقيق تحالف سياسي مع ملكها أصحمة ابن أبجر الملقب بالنجاشي، و ذلك باعتباره أقرب سلطة سياسية جغرافيا لمكة، و لما لا تحالف عسكري يدعمه في صراعه مع الملأ المكي، لكن المحاولة باءت بالفشل لكون ملك الحبشة لم يشأ أن يفقد علاقاته التجارية و تحالفه مع سادة قريش، بل و  حتى هجرته من مكة إلى المدينة لم تكن إلا نتيجة مباشرة لتحالف سياسي مع قبيلة الخزرج القوية في المدينة، و أبلغ دليل على هاته الحقيقة هو كونه قد اختار النزول عند أخواله من قبيلة بني النجار الخزرجية، و رغم أن البعض قد يتحجج بكون محمد لم يكن له أخوال مباشرون أي بمعنى أشقاء فعليون لأمه آمنة بنت وهب، لكن درج العرف عند العرب حينها ( ولا زال حتى اليوم ) في اعتبار جميع رجال القبيلة التي تنحدر منها الأم أخوالا.

و من الجدير بالذكر أن هاته الهجرة قد سبقتها محاولات متكررة للحصول عى مشروعية سياسية و اجتماعية لدى قبائل أخرى مجاورة لمكة، و لعل أبرزها هي محاولته الحصول على الدعم لدى قبيلة ثقيف في منطقة الطائف جنوب شرق مكة، و هي قبيلة منافسة لقريش من الجانب الاقتصادي، و قد عرفت بالزراعة كنشاط إقتصادي أساسي، و بالتالي كانت علاقة الملأ المكي و سادته بها علاقة حيوية من حيث الحاجة للغذاء في مكة القاحلة التي لا ينبت فيها زرع، لكن المحاولة فشلت عندما تعرض محمد هناك للإهانة و الضرب رغم أنه قد عرض على سادتها أن تحتضن الطائف دعوته التي رفضتها قريش و رفضها سادة مكة، بل و حتى عندما طلب من سادة ثقيف أن يخفوا أمر قدومه لديهم عن قريش لم يجيبوه إلى ذلك إمعانا في الإهانة، و في طريق عودته إلى مكة توقف للمبيت ليلا في واحة و قام للصلاة، فنزلت عليه الآيات التالية من سورة الجن : ” قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) “ فعاد إلى رفيقه في الرحلة زيد ابن حارثة (كان إبنه بالتبني حينها) ليحدثه بكون الجن قد إستمعوا إليه و هو يقرأ القرآن في صلاته، و إذا ما تعاملنا مع هذه القصة بشكل موضوعي و متجرد فسوف نجد أن هذا التصرف و الإدعاء الغريب ليس له إلا معنى واحد، فالرجل قد ذهب يبحث عن الدعم المادي و المعنوي لدى قبيلة من سادة العرب، لكنه أهين  و طرد شر طردة،  و بالتالي فادعاءه بأن الجن يستمع له و هو يقرأ القرآن و يقتنع بدعوته لهو في نهاية الأمر تعويض نفسي عما وقع له عند ثقيف التي إحتقرت دعوته و رفضت دعمه، فالبشر الجاحدون يرفضونه بينما الجن و هم مخلوقات خارقة يستمعون لقرآنه خفية في ظلمة الليل و يتخشعون من فرط التأثير، و حتى عند عودته لمكة بعد رجوعه من الطائف لم تكن لمحمد الجرأة على دخولها و هو عائد إلبها مطرودا و مهانا، فتوقف خارج المدينة و أرسل برجل من قبيلة خزاعة إلى رجل من سادة قريش يدعى المطعم بن عدي و هو من بني عبد مناف، أي من نفس نسب محمد، ليطلب منه أن يجيره ليدخل مكة تحت حمايته، و هو ما كان، و يروي ابن سعد في طبقاته الكبرى القصة كما يلي : ” ودعا المطعم بنيه وقومه فقال: «تلبسوا السّلاح وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدًا»، فدخل محمد ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى «يا معشر قريش إني قد أجرت محمدًا، فلا يهجه أحد منكم» فانتهى النبي محمد إلى الركن فاستلمه وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته والمطعم بن عدي و ولده محيطون به “.

رسم عثماني لحادثة قتل النضر ابن الحارث لى يد علي ابن أبي طالب عقب أسره في معركة بدر
رسم عثماني لحادثة قتل النضر ابن الحارث على يد علي ابن أبي طالب عقب أسره في معركة بدر

و قد تلت هاته المحاولة مع ثقيف محاولات أخرى مع عدة قبائل أخرى، حيث كان محمد يترصدها في مواسم الحج و يلتقي بسادتها عارضا أمره عليهم لعله يحصل على تحالف يدعم دعوته، و قد حاول مع بني حنيفة و كندة و هم من سادة العرب آنذاك، لكنهم لم يستجيبوا لدعوته, أما بنو عامر فقد اشترطوا عليه أن يكون الملك لهم من بعده لكنه رفض، و قد استمر في محاولاته الدؤوبة موسما بعد موسم حتى كانت بيعة العقبة الأولى ثم الثانية التي انتهت بتحالف مباشر مع الأوس و الخزرج و هو التحالف الذي كان يحقق مصلحة القبيلتين معا في مواجهة يهود يثرب و نواحيها.

و في مرحلة أخرى بعد هجرته ليثرب لم يتردد محمد في التحالف مع من كانت العرب تسميهم بالصعاليك، و هم عصابات من المجرمين و القتلة و اللصوص الذين طردتهم قبائلهم وسموا بالـ (الخلعاء)، و قد تجمعوا فيما بينهم مشكلين جماعات صغيرة تمتهن قطع الطريق على قوافل الحج و التجارة و غزو مرابض القبائل و قطعان الإبل، و كانوا يتنقلون بحرية بين دروب الصحراء، يحترفون القتل و الخطف و السبي، مما شكل منهم قوة مرعبة بالنسبة للعرب حينها، و قد كان أشهرهم هو الصحابي أبو ذر الغفاري، وهو من أعتى صعاليك عصره وينتسب إلى قبيلة غفار المشهورة باحتراف قطع الطرق على القوافل لسرقتها و نهبها.

و في حركة شديدة البراغماتية سياسيا و عسكريا لجأ محمد إلى التحالف معهم لأنه فهم أنهم قوة عسكرية تشبه المرتزقة و لهم خبرة كبيرة بمسالك الصحراء و طرق القوافل التجارية، و سوف يساعدونه في حربه مع قريش و خاصة في الإغارة على الآبار و محطات توقف قوافل تجارتهم، فالرجل قد هاجر خارج المدينة مع أتباعه و أصحابه تاركين أموالهم و أراضيهم و أملاكهم، و بات في حاجة لمداخيل مادية كبيرة لكي يوفر لهم معيشة قارة و لكي يستطيع تسليحهم و إعدادهم لمعاركه.

و قد جاء في الطبقات الكبرى، لابن سعد في الجزء الأول، ص155 : “كتب رسول الله صلعم لجُمّاع كانوا في جبل تهامة قد غصبوا المارة من كنانة ومُزينة والحكم والقارة ومن اتبعهم من العبيد، و قد وفدَ منهم وفدٌ على النبي فكتب لهم رسالة قال فيها :

“بسم الله الرحمن الرحيم, هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لعباد الله العتقاء, أنهم إن آمنوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فإن عبدهم حرّ, و مولاهم محمد، و من كان منهم من قبيلة لم يردّ إليها, و ما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه فهو لهم، و ما كان لهم من دين في الناس رُدّ إليهم, و لا ظلم عليهم و لا عدوان و إن لهم على ذلك ذمة الله و ذمة محمد والسلام عليكم”.

لوحة منمنمات فارسية يرجع تاريخها للعام 1550 تتوقع النبي محمد و هو يركب البراق في رحلة المعراج.
لوحة منمنمات فارسية يرجع تاريخها للعام 1550 تتوقع النبي محمد و هو يركب البراق في رحلة المعراج.

ها هو النبي إذن يضع معالم تحالف قوي مع عصابة من المجرمين و قطاع الطرق، فيضع نفسهم في مقام مولاهم (سيدهم و زعيمهم)، و يؤمنهم بعدم إعادتهم لقبائلهم عنوة، و جعل جرائمهم من القتل و السرقة و السلب و النهب و السبي فعلا مشروعا لهم، بل زاد على ذلك بأن جعل لهم في أعناق الناس دينا رغم كونهم في عرف القبائل مجرد مجرمين يحترفون السرقة و قطع الطريق، بل و جعلهم في ذمته مما يعني أن كل من يحاربهم يحاربه و يستعديه، و كل هذا طبعا مشروط بأن يقروا بنبوته و يتبعوا دعوته و يطبقوا طقوس الدين الجديد، و ها هو محمد هنا يتصرف بسياسة منفعية خالصة و هو يتحالف مع عصابات من القتلة و اللصوص لكي يقوي بهم دعوته و يسيرهم لاعتراض قوافل قريش المتجهة إلى الشام، فهو يعلم جيدا أن لا سبيل له لإقناع أنصاره في يثرب للخروج وراء قوافل قريش لمهاجمتها، خاصة و أن حلفه معهم لا يتضمن الدفاع عنه خارج حدود يثرب ( في معركة بدر لم يخرج معه أكثر من ثلاثمائة و عشرون رجلا، مع العلم أنه قد هاجر معه أكثر من مئتين من أصحابه من مكة)، و لهذا لجأ إلى عصابات الصعاليك، فهم ليسوا بحديثي عهد بقطع الطرق و السرقة و القتل، و لهذا استخدمهم كمرتزقة في حربه مع قريش.

يقول المؤرخ الكبير د. جواد علي في كتابه : المفصّل في التاريخ، الجزء التاسع، ص 602 : “والصعاليك حاقدون على مجتمعهم، متمردون عليه لا يبالون من شيء و لو كان سلباً و نهباً و قتل أبناء عشيرتهم، لأنهم خلعوا منه و كل ما تقع أعينهم عليه، و هو مفيد لهم نافع، و من حقهم انتزاعه من مالكه، و إن كان مالكه فقيراً معدماً مثلهم…و يرون الخلاص من هذا الذل بالحصول على المال بالقتل و السيف، فمن استعمل سيفه نال ما يريد، لا يبالي فيمن سيقع السيف عليه، و إلا عدّ من العيال“، و دعونا نتأمل في حديث لمحمد يتوافق تماما مع توجه الصعاليك، أليس هو القائل : “من قتل رجلا له عليه بينة فله سلبه“، و ما البينة هنا إلا الفرق بين من آمن بدعوته و صدق نبوته و اتبعه، و إلا كان كافرا يحل دمه و ماله و عرضه، و هذا بالضبط هو صميم العهد بينه و بين عصابات الصعاليك التي تقوى بدعمها على المضي في أمره.

و بالإضافة إلى كل ما سبق، فمن الضروري أن نعرج على سعي الرجل للحصول على السلطة السياسية الفعلية في يثرب، فقد كانت له مواجهات عنيفة مع القبائل اليهودية هناك أو من سماهم في القرآن ببني إسرائيل، فبعد هجرته للمدينة وجد محمد أن لليهود فيها تواجدا قويا على المستوى الإقتصادي أولا، فهم أصحاب تجارة كبيرة و متشعبة تتوزع بين الفلاحة و التمور و صناعة و بيع السلاح التي لم يكن العرب يتقنونها حينها، إلى جانب إمتلاكهم لمزارع و أراضي شاسعة في المدينة و خارجها حول حصونهم، أما  على الجانب السياسي فقد كانت قبيلة بني قينقاع حليفة لقبيلة الخزرج بينما قبيلة بني النضير و بني قريظة حلفاء لقبيلة الأوس، و لأن محمدا قد كان ضيفا جديدا على يثرب فقد كان يعي ببراغماتيته الشديدة أن اليهود عنصر أساسي في المعادلة السياسية الجديدة التي أصبح يتحرك داخلها، كما كان  يعي أيضا أنه بحاجة لمساندتهم في مواجهته مع قريش التي بات يهاجم قوافلها المتجهة من مكة إلى الشام شمالا و التي تعبر على طريق يثرب، و بالتالي فهو في حاجة لدعمهم المادي سواء بالمال أو بالسلاح، و لا عجب هنا أن نجد القرآن قد خصص لهم عشرات الآيات التي يتودد فيها إلى بني إسرائيل حيث وصف فيها رسلهم و أنبياءهم و ما أنزله الله إليهم في التوراة مؤكدا على كون نبوته هي إستكمال إلهي لما فضل به الله بني إسرائيل على العالمين، و مدحهم بكونهم أهل إيمان و صلاح و تقوى خصهم الله بشرائعه قبل باقي الأمم و الشعوب، لكن مع ذلك ظل اليهود على موقفهم من محمد يرفضون التعامل معه على أساس كونه نبيا مرسلا من الله و بكتاب منزل بالوحي، فهم يرون أن النبوة فضيلة إلهية كبرى مرتبطة بالعرق أولا،  و مقدسة ثانيا، فقد خصهم الله بها دونا عن باقي البشر و هم لم يعترفوا بعيسى المسيح الذي إعتبروه كاذبا و مدعيا فكيف يعترفون بمحمد بعده بأكثر من 6 قرون، و حينها إدعى محمد أنه مذكور عندهم بصفته و إسمه في التوراة أو العهد القديم، لكنهم حرفوا كتبهم لينكروا نبوته و يكذبوا على الله و يجحدوا دعوته لهم بالحق، و بعد هذه النقطة مباشرة جاءت دعوة محمد المباشرة ليهود يثرب للدخول في الأسلام، حيث تذكر سيرة إبن هشام أنه بعد عودته من معركة بدر مزهوا بإنتصاره على قريش، جمع اليهود في سوق بني القينقاع فقال : ” يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا “، فأجابوه قائلين : ” يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أننا نحن الناس و أنك لم تلق مثلنا “،و قد كانت هاته الحادثة بمثابة الباب المفتوح للمواجهة المباشرة بين محمد و القبائل اليهودية الثلاث التي تستوطن يثرب و ضواحيها.

و قد تلتها معركة و حصار على حصون بني قينقاع إنتهت بطردهم من حصونهم و إجلاءهم عن يثرب تاركين بيوتهم و أراضيهم و أموالهم غنيمة للمسلمين، و لولا تدخل عبد الله بن أبي سلول الذي أجبر محمدا على إخلاء سبيلهم لكان مصيرهم مشابها لمصير بني قريضة، فقد حاصرهم محمد بجيشه بعد غزوة الأحزاب، بعد أن إتهمهم بالخيانة و التحالف مع قريش ضده، و إنتهى الحصار كما نعلم بتلك المذبحة البشعة التي أهلكتهم، حيث قتل محمد رجالهم، حتى الأطفال ممن بلغوا الحلم، و باع من تبقى من نساءهم و أطفالهم كعبيد في أسواق اليمن و البحرين، و اشترى بثمنهم الخيل و السلاح ليجهز العدة لغزو مكة.

و ما إن مكنت السلطة لمحمد بفتح مكة و ضمن سيطرته على أغلب قبائل نجد و الحجاز، حتى أمر بإخراج من سماهم بالمشركين و النصارى و البهود من جزيرة العرب، و تلك كانت آخر وصاياه و هو على فراش الموت.

كل هاته الأحداث التي فصلتها أعلاه تبين أن محمد قطعا لم يكن رجلا عاديا، بل كان شديد الذكاء و لم يتوانى لحظة واحدة عن انتهاز أية فرصة تمنحه التفوق السياسي و العسكري و تحقق له الموارد الإقتصادية و المالية التي تسمح له بمد دعوته بين قبائل العرب، حتى و هو يتحالف مع المجرمين و قطاع الطرق في تصرف مشين لا يليق بمقامه كنبي و مصلح ديني و إجتماعي، لكن المشكلة الأساسية هنا هي أن الطريقة التي كتب بها التاريخ الإسلامي كما نعرفه لا تسمح بتاتا بالتعرف على هاته الجوانب المهمة و المفصلية من حياة الرجل وةتاريخ دعوته، و لا تسمح بدراستها و تحليلها بالطريقة المجردة و الموضوعية التي تخرجه من ذلك البعد الأسطوري الذي أضفاه عليه كناب السيرة و المؤرخون العرب و المسلمون، هذا البعد قد حول محمد لشكل من أشكال الميتاتاريخ، حيث يتجاوز الرجل وجوده كبشر ليتحول إلى شخص مقدس خارج من عمق الغيبيات التي بني عليها الإسلام كدين، و خصه الله باصطفاء سماوي يرفعه إلى مراتب تتجاوز قدرات البشر العادية، فتصبح كل تصرفاته و اختياراته و قراراته مجرد تطبيق لإرادة إلهية حتى و إن كانت مجرد خيارات بشرية محضة تصيب و تخطئ، بل و تلجأ أحيانا لقمة الإنتهازية للوصول لأهداف بعينها.

مهدي بوعبيد

19/03/2018