الأديان الإبراهيمية : التوحيد تعبير عن طموح سياسي و ليس رغبة إلهية

بالنسبة للأديان الإبراهيمية الثلاث، لا يمكن فصل الإرتباط الضمني بينها و بين القوميات التي نشأت فيها أو الإمبراطوريات التي أنشأتها، كما لا يمكن التعطي معها بمعزل عن السياق التاريخي و المعرفي و السياسي و الإقتصادي الذي ظهرت فيه، فالحاجة للتخلي عن تعدد الآلهة الوثنية و تعويضها بإله واحد يجتمع تحته الكل و يستسلمون لإرادته، هي حاجة سياسية و قومية أولا، و هي جزء أساسي من عملية تجديد المعرفة البشرية المتوفرة في مرحلة تاريخية معينة، قبل أن تكون فعلا إلهيا خالصا.
في حالة اليهودية مثلا، كان التحول من الإله بعل الكنعاني الذي عبدته قبائل يهوذا و السامرة المشتتة في أرض كنعان، إلى الإله يهوه YHWH المتفرد وسط باقي مجمع الآلهة المعروف حينها في منطقة الشرق الاوسط، و الذي كان خليطا بين آلهة بابل و سومر و آكاد و مصر القديمة، و هي كلها حضارات تميزت بوجود سلطة سياسية مركزية، تفرض إرادتها في إطار علاقة تكامل تام بين الحاكم و الآلهة التي يتحدر من نسلها حسب الأساطير و الملاحم و المرويات التراثية لشعوب تلك المنطقة، و عندما أعلن يهوه عن نفسه لهذه القبائل عبر الأنبياء، كان هذا التجلي عبارة عن دعوة مرحلية لتوحيد هاته القبائل في قومية واحدة تجتمع كلها بالخضوع و تتحد خضوعا لإرادته, و من ثم قام هذا الإله المتفرد و الجديد بمكافأة هاته القبائل و الأجيال القادمة المنبثقة منها بمنحها أرض كنعان، أرض أنهار العسل و اللبن، حيث أمرهم ببناء أول منزل له و هو الهيكل القديم، و كأنها صفقة يجتمع فيها الطرفان بما يحقق مصلحتيهما بالدرجة الأولى، و أكثر ما يعبر عن كون اليهودية دعوة قومية أكثر منها دينية، هو كمية الغضب و السعار التي تميز بها الإله يهوه في نصوص العهد القديم، فهو إله غاضب دوما، و يهدد و يتوعد كل من يقترب من شعبه المختار بنصف كلمة، و لا يتردد في التعبير عن مستويات مرعبة من العنصرية التطرف تجاه باقي البشر، حين يعتبرهم أقل قيمة بل أقل بشرية من أبناءه، بني إسرائيل، وصولا لدرجة اعتبارهم هم و أسرهم و أولادهم و نسلهم من بعدهم، مجرد عبيد و خدم عند شعبه المختار، يزرعون أراضيهم و يحصدون زرعهم و يعصرون نبيذهم، و بذلك تشكل العهد الإلهي الأول بين بني إسرائيل و الإله المتفرد العنصري و الغاضب دوما ضد كل البشر بإستثناء شعبه المختار.
أيقونة قبطية تصور النبي - الملك داوود.
أيقونة قبطية تصور النبي – الملك داوود.
أما في حالة المسيحية، تلك الديانة التي اخترعها بولس الرسول، لأن عيسى المسيح لم يأت بدين جديد، بل برؤية جديدة للإله يهوه الذي خرج من ثوب القومية اليهودية، إلى الآب الذي يجتمع تحت إرادته كل البشر بغض النظر عن أصولهم الإثنية و القومية، نجد أنه لم تكتسب هذه المسيحية أي زخم إيماني حقيقي في العالم القديم، إلا بعد أن قرر الإمبراطور  الروماني قسطنطين اعتمادها كديانة رسمية لدولته، بعد أن حلم بالصليب نازلا من السماء قبل إحدى معاركه المهمة، و اعتبر هذا الحلم علامة من السماء على ضرورة إتباع المسيحية كدين رسمي لدولته، و يمكننا القول هنا أن دعوته لتشكيل مجمع نيقية Consul de Nicée عام 325 للميلاد، كانت وراءها إرادة سياسية فعلية لإختراع ديانة جديدة تتوحد تحتها كل الشعوب و القوميات الواقعة تحت حكم روما السياسي و العسكري، بغرض تثبيت مشروعية الإمبراطور الذي حلم بالصليب ليلة معركة عسكرية حاسمة، و لم يكن هدفه تحقيق إرادة الإله المتفرد على الأرض، بل تدعيم سلطته السياسية أولا، و توحيد القوميات المتنافرة داخل إمبراطوريته داخل تناغم ديني واحد يمثل إرادة سياسية رغم التباعد الجغرافي بين الشعوب الواقعة تحت سلطته، و لعل هذا هو السبب الرئيسي الذي جعل مجمع نيقية يعيد تشكيل شخصية عيسى المسيح من جديد، عبر إدخال تفاصيل مأخوذة من شخصيات الآلهة الوثنية القديمة التي عبدتها نفس الشعوب و القوميات الواقعة تحت الحكم الروماني مثل الإله الهندو-إيراني ميثراس، و الإله المصري القديم حورس، إذ أن شخصية المسيح حينها لم يكن لها نفس البعد الشبه أسطوري الذي نعرفه اليوم، و لأن الهدف هو توحيد الشعوب و القوميات تحت إرادة سياسية واحدة عبر الدين الجديد، كان من الضروري تقديم شخصية النبي المخلص بشكل يجعلها قريبة من الشخصيات الأسطورية و الدينية الوثنية المعروفة في العالم القديم.
لوحة حائطية من رسم الفنان الإيطالي RAFFAELLO في القرن السادس عشر الميلادي في ما يسمى بقاعة قسطنطين Sala di Constantino في مبنى الفاتيكان, اللوحة تصور حلم قسطنطين الذي رأى فيه الصليب نازلا من السماء.
لوحة حائطية من رسم الفنان الإيطالي RAFFAELLO في القرن السادس عشر الميلادي في ما يسمى بقاعة قسطنطين Sala di Constantino في مبنى الفاتيكان, اللوحة تصور حلم قسطنطين الذي رأى فيه الصليب نازلا من السماء.
إن ظهور المسيحية و تبلورها كدين توحيدي ليس إلا نتيجة منطقية للإمتداد السياسي و العسكري للإمبراطورية الرومانية، و ليس تحقيقا إعجازيا لإرادة إلهية، و حتى قبل العام 325 ميلادي، كانت الديانة الأكثر انتشارا في الإمبراطورية هي الميثرائية، حيث امتدت عبادة ميثرا من شب القارة الهندية شرقا، إلى حدود إلى ألمانيا في أقصى شمال أوروبا و وصولا لإسبانيا في أقصى الغرب، و لا زالت معابد الميثرايوم Mithraeum شاهدة على مدى إنتشار هذه الديانة في العالم القديم. و حتى إعادة تجميع و تصنيف الأناجيل بين 4 أناجيل رسمية معترف بها، و أناجيل أبوكريفية منحولة أو غير معترف بها تم تدمير و إحراق أغلبها و منع تداولها، هو تصرف يحطم أسطورة الوحي الإعجازي بين السماء و البشر، فلا شيء يؤكد سماوية الأديان الابراهيمية بشكل مطلق غير معجزة الوحي و حديث الله مع البشر سواء الأنبياء أو القديسين من بعدهم، و متى تحطم هذا الرابط الإعجازي المقدس تبعا لما تؤكده التفاصيل التاريخية و اللقى الأثرية و الأركيولوجية، تعود هاته الأديان لموقعها الحقيقي، و هو كونها مجرد معرفة بشرية تطورت عبر مراحل الوعي البشري، لتتحول من مجرد محاولة بدائية لتفسير العالم الغامض المجهول من حولنا، إلى أداة أساسية و ضرورية من أدوات السياسة و تسيير الإمبراطوريات و القوميات.
منحوتة تعود للحقبة الرومانية تمثل الولادة المعجزة للإله ميثرا من الصخرة، و قد عثر عليها شمال بريطانيا و توجد حاليا بمتحف نيوكاسل.
منحوتة تعود للحقبة الرومانية تمثل الولادة المعجزة للإله ميثرا من الصخرة، و قد عثر عليها شمال بريطانيا و توجد حاليا بمتحف نيوكاسل.
و لا يختلف المشهد في حالة الإسلام إلا في بعض التفاصيل البسيطة، فهذا الدين نفسه لم ينشأ من فراغ، بل هو مجرد تكملة لما جاءت به اليهودية و أخذته عنها المسيحية، ليكمل الإسلام الطريق في نفس السياق، مقدما نفسه على كونه الرسالة النهائية من السماء للبشرية كلها، أي أنها آخر محاولة من الله للحديث مع البشر لشرح إرادته و كيفية تنزيلها على الأرض، بينما مجمل أحكامه و تشريعاته هي في أصلها مجرد نقل حرفي و عشوائي من اليهودية، و منطقيا لا شيء يميز الإسلام عما سبقه بما يفسر ضرورة كونه آخر ما أنزل من السماء، بينما أغلب مفاهيمه و تشريعاته هي نقل حرفي من أول ديانة عرفها البشر.
و على الجانب السياسي و الإجتماعي لم تكن دعوة محمد بن عبد الله إلا ترجمة مباشرة لإرادة سياسية بتشكيل ملك كبير تتوحد خلفه القبائل العربية البدوية المشتتة بين نجد و الحجاز و اليمن و جنوب الشام و العراق، و هي إرادة حاول جد النبي محمد الرابع قصي بن كلاب تحقيقها على الأرض قبل ظهور الإسلام بقرنين من الزمن معتمدا على تحالفات عسكرية و اقتصادية و سياسية بين قبائل العرب و بين الإمبراطورية الرومانية و الفارسية، و ذلك عبر تأمين خطوط القوافل، و تكريس سيطرة قريش على الكعبة و الحج و ما يخرج و يدخل الجزيرة العربية من تجارة و موارد و سلع، و ذلك بحكم موقع مكة الجغرافي ، و قد حاول جده الأول عبد المطلب أيضا تحقيقها وسط قريش بعد ذلك، لكنه كان يفتقد الموارد المالية و الكاريزما السياسية الضرورية لفرض رؤيته على الملأ المكي.
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يلقي خطبة حجة الوداع
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يلقي خطبة حجة الوداع
و قد جاء في السيرة الحلبية، و سيرة ابن هشام، قول النبي محمد لملأ قريش المكي : ” أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم، هل تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب و تدين لكم بها العجم .. ؟؟!!”، فعندما يصدر عن محمد مثل هذا القول، فهو لا يعبر عن إرادة الله على الأرض، بل يفصح عن الهدف الحقيقي من وراء دعوته لدين جديد، إنه هدف سياسي و قومي أولا قبل أن يكون دينيا، فهو يتحرك وسط قبائل و تجمعات بشرية تفتقر إلى كيان سياسي يعبر عنها كقومية مستقلة، و تعيش تحت ولاءات متفرقة حسب موقعها الجغرافي، بين الإمبراطورية الفارسية و الرومانية، و هما دولتان قويتان حاربتا بعضهما البعض طيلة قرون طويلة، و هاته الحرب الطويلة جدا قد أنهكتهما عسكريا و سياسيا و ماليا، و بدأت سيطرتهما السياسية على قبائل جنوب العراق و جنوب الشام و نجد و الحجاز ترتخي و تنسحب شيئا فشيئا، مما شكل فراغا سياسيا متاحا تماما أمام من يريد أن يتحرك ليحتله و يفرض نفسه، و لم يكن ذلك ليتحقق دون دعوة دينية توحد الشتات القومي للقبائل تحت فكرة مقدسة واحدة، منبثقة من معجزة الوحي الإلهي الذي اختص به رجلا واحدا من وسط قبيلة تملك شأن العرب اقتصاديا و دينيا لكونها تسيطر على الكعبة، موطن آلهة العرب الوثنية المتعددة، و موسم الحج السنوي هو التطبيق الفعلي لهذا الملك المعنوي الطي لم يكن قد تم تكريسه سياسيا بعد، بالإضافة لإيلاف قريش و رحلتي الصيف و الشتاء للتجارة مع الشام و اليمن، (الذي ذكره محمد في القرآن كمعجزة إلهية اختص بها الله قبيلة قريش دونا عن باقي قبائل و بطون العرب)، و ما حديثه عن تملك شأن العرب و العجم عبر دعوته الدينية إلا تعبير واضح و جلي عن الإرادة السياسية المتخفية وراء هذا الدين الجديد.
و هو نفس ما يؤكده عتبة بن ربيعة لقريش حين التقى بمحمد و استوعب عمق و كنه دعوته فقال لهم : ” يا معشر قريش، أطيعوني و اجعلوها بي و خلو ما بين هذا الرجل و ما هو فيه، فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم و إن يظهر على العرب فملكه ملككم و عزه عزكم، و كنت أسعد الناس به ” و لسنا في حاجة لتفسير ما يقصده الرجل بجملته هذه، فمن الواضح أنه يتحدث عن أمر الملك و ليس الدين.
و تحضرني هنا قصة عجيبة في غزوة الخندق، حيث يقول إبن هشام في سيرته عن سيرة إبن إسحاق : ” وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت علي صخرة، ورسول الله ﷺ قريب مني، فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى.

قال: ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، قال: قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت، لمع تحت المعول وأنت تضرب؟

قال: «أوقد رأيت ذلك يا سلمان؟» قال: قلت: نعم.

قال: «أما الأولى فإن الله فتح علي باب اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح علي باب الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق».

منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يتلقى الوحي من جبريل في غار حراء.
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يتلقى الوحي من جبريل في غار حراء.
محمد في هذا السياق، يواجه غزوا عسكريا من الملأ المكي، يهدده بحصار طويل، و بتحالف ضخم بين القبائل و معىيهود المدينة بغرض القضاء على دعوته، و أصحابه في ضيق من الحال و ضنك و فقر و جوع نتيجة الحصار، بينما نراه يستغل حادثة بسيطة جدا خلال حفر الخندق لصد الغزو، ليحولها لنبوءة إلهية بفتح قصور الحيرة في العراق و مدائن كسرى في فارس و حواضر الروم في الشام، و تصرفه و حديثه هذا ينم عن ذكاء سياسي كبير جدا و كاريزما قوية جدا تظهر في وضع من الضعف و الهوان قد يؤثر على نفسية أصحابه و قومه، فيلجأ هو لدعمهم نفسيا بإثارة حلم ملك سياسي ممتد خارج حدود إمكانياتهم العسكرية و السياسية، و هو بذلك يستعمل الآلهة بشكل مغرق في البراغماتية إلى أقصى الحدود، تماما كما فعل إبراهيم و موسى و سليمان و داوود مع بني إسرائيل حين ربطوا بين الإله يهوه و القومية اليهودية الناشئة وسط قبائل بدوية تعيش حالة من الضآلة و هي شبه محاصرة وسط حضارات العالم القديم حينها (بابل و آكاد و آشور و مصر القديمة)، و كما فعل قسطنطين حين ادعى أنه قد حلم بصليب نازل من السماء و قد كتب عليه (بهذا تغلب).
كما يؤكد هذه الرؤية السياسية جد النبي محمد، عبد المطلب حين يقول عن أولاده و أحفاده مفاخرا بهم قريش : ” إذا أحب الله إنشاء دولة، خلق لها أمثال هؤلاء” و هذه جملة تحمل من التمني و الطموح السياسي الشيء الكثير، قبل حتى أن تبدأ دعوة محمد للدين الجديد، و لعل أكثر من فهم هذا الأمر و عبر عنه بوضوح، هو أبو سفيان، رأس بني أمية حين قال لعثمان بن عفان بعد توليه الخلافة بعد مقتل عمر بن الخطاب : ” لقد صارت إليك تميم و عدي ( من كبريات قبائل العرب) فأدرها كالكرة و اجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو الملك و لا أدري ما جنة و لا نار ” (المصدر : السيرة الحلبية)، و الرجل هنا يتحدث بصراحة عن رؤيته الحقيقية لدعوة محمد بتجرد و واقعية عميقة، بكونها إرادة ملك و سياسة أولا، و الجزء الغيبي أو الديني منها لا يهمه و لا يعترف به حتى، و هو ما تأكد فعليا على الأرض حين أحاط عثمان بن عفان نفسه ببني قومه من بني أمية ثم ولاهم كل شيء حتى إنتهى الأمر بتلك الفتنة التي نعرفها جميعا، كما تأكدت الرؤية نفسها فيما بعد بانتهاء مفهوم الخلافة و تعويضه بالملك الوراثي عبر إبنه معاوية بن أبي سفيان و هو الملك الذي تحول بعد ذلك لدولة حقيقية لم يتردد ملوكها و سادتها و قادة جيوشها في فرض سلطتها على القومية العربية الناشئة بالقوة العسكرية (موقعة الحرة و كربلاء و محاصرة الحجاج لابن الزبير في مكة).
كما رأينا فإن نشأة و ظهور الأديان التوحيدية لا يحمل من الإعجاز الإلهي إلا فكرة الوحي، أو حديث الله مع الأنبياء و القديسين، و هو إعجاز متجاوز اليوم تماما بحكم المنطق، خاصة إذا ما وضعت النصوص المقدسة تحت مجهر الفكر النقدي و التحليلي، بل حتى تحت مجهر الفلسفة (حيث يظهر الدين كمحاولة بدائية للتفلسف في مواجهة الطبيعة)، أما ما تبقى خارج الوحي، فهو ليس إلا حتمية سياسية ناتجة عن معطيات جغرافية و ديموغرافية و إقتصادية و معرفية منفصلة تماما عن السماء و من يسكنها، فحيث تتكون تجمعات بشرية تتقاسم نفس المجال الجغرافي و الثقافي و المعرفي، و نفس الموارد و الأنشطة الإقتصادية، يكون من المنطقي تماما أن تتشكل حولهم إرادة سياسية لتوحيد هاته التجمعات في كيان قومي واحد، يعبر عن طموحات هاته التجمعات في السيطرة الفعلية على هذا المجال الجغرافي و ما يحتويه من موارد و أنشطة و ثقافة و معرفة و تجاذبات، و يصبح التوحيد هنا بمثابة هروب من التفرقة الإجتماعية و السياسية التي تنتج عادة عن تعدد الآلهة الوثنية التي عبدها البشر منذ بداية العصر النيوليثي (حوالي 6000 – 7000 سنة قبل الميلاد)، حيث تعددت الآلهة بتعدد مكونات التجمعات البشرية البدائية، و بتعدد مكونات المجال الطبيعي و الجغرافي الذين تعيش فيه.
رسم لقطعة من جرة فخار وجدت بمنطقة كونتيلة عجرود بسيناء يبين تصورا للإله يهوه و زوجته عشيرة، القطعة موجودة حاليا بمتحف الأركيولوجيا بجامعة تل أبيب.
رسم لقطعة من جرة فخار وجدت بمنطقة كونتيلة عجرود بسيناء يبين تصورا للإله يهوه و زوجته عشيرة، القطعة موجودة حاليا بمتحف الأركيولوجيا بجامعة تل أبيب.
إن التوحيد بكونه إلغاء تاما و نهائيا لتنوع و تعدد الآلهة الوثنية، هو سعي محموم لاكتساب أدوات القوة و الإرادة السياسية و العسكرية عبر دمج مكونات المجتمعات البشرية في بوثقة واحدة، تتحرك داخل مجال موحد، بطموحات من يملكون زمام الأمور السياسية، بعيدا عن الآلهة و ما أوحت به لمن اصطفتهم من البشر، و لعل هذه النقطة بالذات هي ما يفسر كون معظم أنبياء بني إسرائيل قد كانوا ملوكا يسعون لتمكين حكمهم على شتات قبائل يهوذا و السامرة على أرض كنعان القديمة، و هو ما يفسر كون الديانة المسيحية قد انتظرت ما يناهز الأربعة قرون لتتشكل في صورتها الحالية، و لم يتحقق ذلك إلا  بإرادة الإمبراطور قسطنطين العظيم الذي رأى فيها أداة سياسية كفيلة بتقوية سلطته و حكمه، و هو يفسر كون الدولة الأموية كترجمة لظهور قومية جديدة في منطقة الشرق الأوسط قد بدأت بعد 41 سنة من هجرة محمد من مكة إلى المدينة، إن الأديان التوحيدية كلها ليست إلا نتاجا سياسيا طبيعيا تماما للبيئة التي ظهرت فيها، و لا دخل لرغبات و إرادة الآلهة في ظهورها.
مهدي بوعبيد
21/06/2018

هل القرآن عربى مبين فعلا ؟؟!

هناك نصوص قرآنية عديدة تؤكد أن القرآن قد كتب بلسان عربي مبين، نذكر من بينها ما يلي :

(سورة يوسف 12: 2) “إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون”

(سورة طه 20: 113) “وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا “

(سورة الزمر 39: 28) “قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون”

(سورة فصلت 41: 3) “كتاب فصلت آياته، قرآنا عربيا لقوم يعلمون”

(سورة الشورى 42: 7) “وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها”

(سورة الزخرف 43: 3) “إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون”

(سورة الأحقاف 46: 12) “لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا”

(سورة الشعراء 26: 193و195) “نزل به الروح الأمين .. بلسان عربي مبين”

(سورة النحل 16: 103) “وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ”

و قد إتفق المفسرون على إختلاف مذاهبهم على كون هاته الآيات تؤكد و تجزم على أن القرآن قد أنزل بلسان عربي من أفصح ما تحدثت به عرب الجزيرة بإختلاف لهجات القبائل عند بداية الدعوة المحمدية.

لكن مهلا، إلى جانب هاته الآيات، يؤكد المفسرون أيضا و من أبرزهم جلال الدين السيوطي، على كون القرآن يحتوي على العشرات من الكلمات الأجنبية بعدة لغات كانت معروفة و تحدثت بها شعوب المنطقة من اليمن و الجزيرة العربية و الشرق الأوسط و آسيا الصغرى و منطقة البحر الأبيض المتوسط و شمال إفريقيا، نذكر من بينها اللغات التالية : الآرامية، العبرية، الفارسية، البهلوية، الهندية، الحبشية، القبطية، الأمهرية و عدة لغات أخرى من نفس الفترة التاريخية التي كتب فيها القرآن.

هذا النقش عثر عليه في منطقة مدائن صالح في المملكة السعودية, و تظهر الكتابة على يسار المخطوطة عبارة عن خليط من النبطية والعربية التي ليس بها أي نقاط أو علامات ترقيم. والكتابة العمودية إلى يمينها هي كتابة ثمودية.
هذا النقش عثر عليه في منطقة مدائن صالح في المملكة السعودية, و تظهر الكتابة على يسار المخطوطة عبارة عن خليط من النبطية والعربية التي ليس بها أي نقاط أو علامات ترقيم. والكتابة العمودية إلى يمينها هي كتابة ثمودية.

و قد عدد المفسرون أكثر من 200 كلمة أعجمية، إليكم قائمة غير حصرية ببعضها :

في “تأريخ القرآن” للشيخ إبراهيم الابياري (طبعة دار الكتاب المصري بالقاهرة سنة1981م ص 190) أورَد بعض الأمثلة للألفاظ الأعجمية في القرآن، وأشار إلى كتاب البرهان في علوم القرآن للزركشي [ج1 ص 288]، وكتاب الاتقان في علوم القرآن للسيوطي الجزء الأول الصفحة 139

– الطور: سريانية، معناها: الجبل
* البقرة2: 63 وغيرها ” وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ

ـ طفِقا: رومية، معناها: قصدا
* الأعراف7: 22 ” وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ”

ـ الرقيم: رومية، معناها: اللوح
* الكهف18: 9 ” أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا”

ـ هدنا: عبرانية، معناها: تُبْنا
* الأعراف7: 156 ” وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ “

ـ طه: عبرانية، معناها: طأْ يا رَجُل
* سورة طه20: 1 “طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى”

ـ سينين: عبرانية، معناها: حسن
* التين95: 2 ” وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ”

ـ السجل: فارسية، معناها: الكتاب
* الأنبياء21: 104 ” يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ”

ـ الاستبرق: فارسية، معناها: الغليظ
* الدخان44: 53 ” يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ”

ـ السندس: هندية، الرقيق من الستر
* الدخان44: 53 ” يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ”

ـ السرىُّ: يونانية، معناها: النهر الصغير
* مريم19: 24 ” فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا”

ـ المشكاة: حبشية، معناها: الكوة
* النور24: 35 ” اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ”

ـ الدري: حبشية، معناها: المضيء
* النور24: 35 ” الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ. الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ”

ـ ناشئة الليل: حبشية، معناها: قام من الليل
* المزمل73: 6 ” إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا”

ـ كِفْلين: حبشية، معناها: ضعفين
* الحديد57: 28 ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ “

ـ القَسْوَرَة: حبشية، معناها: الأسد
* المدثر74: 51 ” فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ”

ـ الملة الأخرى: قبطية، معناها: الأولى
* سورة ص38: 7 ” مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ”

ـ وراءهم: قبطية، معناها: أمامهم
* الكهف18: 79 “وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا” (الطبري وَكَانَ أَمَامهمْ مَلِك)

ـ بطائنها: قبطية، معناها: ظواهرها
* الرحمن55: 54 ” مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ”

ـ أباريق: فارسية، معناها: أواني
* الواقعة56: 18

ـ إنجيل: يونانية، معناها: بشارة
* آل عمران3: 48

ـ تابوت: قبطية، معناها: صندوق
* البقرة2: 247

ـ جهنم: عبرية، معناها: النار
* الأنفال8: 36

ـ زكاة: عبرية، معناها: حصة من المال
* البقرة2: 110

ـ زنجبيل: بهلوية، معناها: نبات
* الإنسان76: 17

ـ سجَّيل: بهلوية، معناها: الطين المتحجر
* الفيل105: 4

ـ سرادق: فارسية، معناها: الفسطاط
* الكهف18:29

ـ سورة: سريانية، معناها: فصل
* التوبة9: 124

ـ طاغوث: حبشية، معناها: الأنداد
* البقرة2: 257

ـ فردوس: بهلوية، معناها: البستان
* الكهف18: 107

ـ ماعون: عبرية، معناها: القدْر
* الماعون107: 7

مخطوطة مما يسمى بمصحف عثمان من مكتبة مسجد خاست بمدينة طشقند, أوزبكستان
مخطوطة مما يسمى بمصحف عثمان من مكتبة مسجد خاست بمدينة طشقند, أوزبكستان

لو أخذنا القرآن ككتاب دين و”نسبيا” ككتاب تاريخ فإن وجود هذه الكلمات داخل آياته يصبح شيئا طبيعيا جدا بالنظر إلى الفترات التاريخية التي كتب و جمع فيها (بغض النظر عن تفاصيل و تاريخ جمعه و الأحداث التي رافقت هذه العملية)، و كلنا نعلم أن اللغة العربية لم تكن لغة متكاملة في فترة نزول القرآن، فلم تكن لها قواعد نحو و صرف معروفة و ثابتة، و كانت تكتب بحروف بدائية و محدودة بدون نقاط و لا تشكيل و لا قواعد إعراب، مما كان يجعل للكلمة الواحدة عدة معان تبعا لطريقة قراءتها و مكان وضع النقاط فوق الحروف (و هذا هو السبب في وجود عدة قراءات في القرآن لدى العرب اليوم، من بينها القراءات السبع المعروفة و المتفق عليها، و عشرات القراءات الأخرى المسماة بالشاذة)، و قد كانت اللغة تكتب بالخط النبطي، و السبب في ذلك هو أن العرب قد كانوا قوما رحل يعيشون حياة البداوة متنقلين بين دروب الصحراء بحثا عن الماء و الكلأ، و بسبب إنعدام أسباب الإستقرار الجغرافي للمجمعات البشرية التي كانت تشكل قبائل الجزيرة آنذاك، لم تتطور لديهم لغة مكتوبة ثابتة و واضحة، و إن كان أغلب من يكتب لديهم يفعل ذلك بالسريانية و الآرامية التي كانت منتشرة جدا حينها، و بالتالي لم تتطور لديهم الكتابة إلا عندما غيروا نشاطهم الإقتصادي نحو التجارة بين اليمن جنوبا و الشام و العراق و فارس شمالا، فظهرت لديهم الكتابة النبطية أخذا عن مملكة النبط التي كانت عاصمتها البتراء (الأردن اليوم)، و هذا التغيير يعتبر أول مدخل حقيقي نحو التمدن و الحضارة لدى العرب، حيث دخلت أساليب جديدة في العمران و البناء و اللباس و الحياة بشكل عام، و كانت في مجملها تأثيرا إجتماعيا ناتجا عن التعرف على حضارات أخرى خلال التجارة بين اليمن جنوبا و العراق و فارس و الشام.

 و لم يتم وضع قواعد النحو و التنقيط و الكتابة للغة العربية إلا بعد عدة سنوات من نزول القرآن، و قد كانت أولى المحاولات على يد القاضي أبي الأسود الدؤلي خلال خلافة علي بن أبي طالب (يصر الشيعة على كونه قد فعل ذلك بأمر و تعليم من علي نفسه)، لكن يبقى سيبويه الفارسي هو أول من وضع قواعد النحو و التنقيط في اللغة العربية بشكل منهجي و مفصل في كتابه الذي سمي “الكتاب” ( لأن سيبويه لم يضع له عنوانا) و قد أُلِّفَ الكتاب في القرن الثاني للهجرة الموافق للقرن الثامن الميلادي، و عدا ذلك فقد بقيت دواوين الدولة الأموية تكتب باللغة الفارسية و السريانية و ذلك حتى مجيء الخليفة الأموي عبد الملك ابن مروان الذي قام بتعريبها باقتراح من الحجاج بن يوسف الذي كلفه بالمهمة، و قد قام  بنقط حروف المصحف وإعجامه بوضع علامات الإعراب على كلماته، وذلك بعد أن انتشر التصحيف، ونُسب إليه تجزئة القرآن، ووضع إشارات تدل على نصفه و ثلثه و ربعه و خمسه، و فرض قراءة واحدة هي قراءة عثمان بن عفان، وترك غيرها من القراءات التي كانت معروفة و منتشرة آنذاك، و أنهى مهمته بأن كتب مصاحف عديدة موحدة وبعث بها إلى مختلف مناطق الإمبراطورية الأموية، و يحق لنا التساؤل عنا عن شكل و مضمون باقي المصاحف التي جمعت و أحرقت و تم تعويضها بمصحف الحجاج و عبد الملك.

نقش النَّمارة أو حجر نمارة أو كما يعرف ب نقش إمرئ القيس هو ما يُعتقد أنه مرحلة سابقة للعربية الفصحى، ويرجع تأريخه إلى عام 328م وكان قد كتب بالخط النَّبطي المتأخر. وقد عثرت عليه البعثة الفرنسية في مطلع القرن العشرين في قرية النمارة شرقي جبل العرب بسورية.
نقش النَّمارة أو حجر نمارة أو كما يعرف ب نقش إمرئ القيس هو ما يُعتقد أنه مرحلة سابقة للعربية الفصحى، ويرجع تأريخه إلى عام 328م وكان قد كتب بالخط النَّبطي المتأخر. وقد عثرت عليه البعثة الفرنسية في مطلع القرن العشرين في قرية النمارة شرقي جبل العرب بسورية.

 

و من الضروري هنا التعريج على نقطة مهمة تتكرر كمغالطة تاريخية عند أي نقاش حول تاريخ اللغة العربية، حيث يعمد البعض إلى إستخدام إكتشاف أركيولوجي مهم من أجل الإستدلال على كون اللغة العربية سابقة تاريخيا على الإسلام.

يتعلق الأمر بنقش النمارة و هو نقش مكتوب على شاهد قبر من حجر البازلت إكتشفه مستشرقان فرنسيان عام 1901 في منطقة النمارة بجبل الدروز أو جبل حوران بالقرب من مدينة السويداء في سوريا.

و حسب ما ذكره غالبية المختصين حين تم الإكتشاف فالنقش هو شاهد قبر لشخص يدعى امرؤ القيس بن عمرو الأول و هو أحد ملوك المناذرة في الحيرة قبل الإسلام و قد كان حكمه تابعا لبيزنطة في الفترة التاريخية ما بين 295 و 328 ميلادية، و النص المنقوش مكتوب بالأبجدية النبطية (المأخوذة من مملكة النبط في الأردن)، و إن كانت هنالك ترجمات مختلفة لمعنى النص، تم تغييرها حسب تفسيرات المختصين ما بين عام 1905 و 1985 وصولا لعام 2009.

المشكلة هنا هي أن من يدافعون عن كون اللغة العربية أقدم من تاريخ ظهور الإسلام، يقومون بالخلط بين امرؤ القيس بن عمرو الأول الذي ورد ذكره كملك في النص النبطي و بين الشاعر الجاهلي إمرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي و هو أحد كبار شعراء المعلقات (رغم إعتراضي على ما يسمى بالشعر الجاهلي الذي أثبت العظيم طه حسين أن أغلبه منحول). و الشخصية الثانية أي إمرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي قد عاش في الفترة ما بين 520 و 565 ميلادية، أي حوالي 200 سنة بعد إمرؤ القيس بن عمرو الأول.

الأمر يتعلق بشخصيتين مختلفتين، بينما يتم الإستدلال بالثاني على أنه الأول و بالتالي ينطلق دعاة هذه المغالطة من كونه شاعرا جاهليا عظيما و صاحب تمكين و فصاحة في اللغة، لإثبات كون اللغة العربية ذات أصول قديمة جدا تعود للقرن الثالث بعد الميلاد، مما ينفي الحاجة للغة الآرامية ما دامت اللغة العربية منتشرة و متطورة للحد الذي يسمح بكتابة شعر متمكن و أصيل ذو متانة و عمق و ثراء لغوي كبير قبل 4 قرون من ظهور الإسلام، بينما لو كان الأمر كذلك فعلا و كان النقش يتحدث عن شاعر عربي ذاع صيت شعره الغزير بين العرب (من أقاصي اليمن جنوبا إلى بيزنطة شمالا) و صاحب لغة عميقة و قوية التغبير بالشكل الذي نقرأه في الأبيات الشعرية المنسوبة له، لكان من غير المنطقي أن يكتب شاهد قبره بالأبجدية النبطية، ألم يكن من الأجدر حينها أن يكتب باللغة العربية و هي لغته الأم التي برع فيها كما يقول تاريخ الشعر الجاهلي … ؟؟!

بينما يؤكد لنا التاريخ الموثق أن اللغة العربية في الفترة التي سبقت الإسلام كانت لغة شفوية تتحدث بها عدة قبائل موزعة بين نجد و الحجاز و بادية السماوة شمال الجزيرة و لم تكن مكتوبة نظرا لغياب الحروف الأبجدية أولا و لذلك كانت تكتب بالحروف النبطية (تماما مثل نقش النمارة)، و النبطية أصلا مشتقة من اللغة الآرامية التي كانت تتحدث بها قبائل بادية الشام و العراق و الأردن طيلة قرون، و قد وصلت للجزيرة العربية مع دخول الجمل للصحراء و الذي سمح لعرب الجنوب بالتنقل الدائم نحو الشام و بادية الأردن بغية التجارة، حيث أخذوا عدة مظاهر حضارية عن شعوب المنطقة آنذاك، من بينها اللغة و الأبجدية و العمران و أشكال اللباس، و قد إستمر الأمر كذلك حتى بعد مجيء الإسلام، فحتى عندما تطورت الأبجدية العربية بحروفها الخاصة كانت تكتب بدون تنقيط و لا تشكيل أو حروف مد و لم تكن لها قواعد نحو و صرف و إعراب.

و من تم كانت أولى محاولات تنقيط اللغة على يد أبي الأسود الدؤلي خلال خلافة علي بن أبي طالب، تلته محاولات ناجحة على يد الحجاج بن يوسف الثقفي خلال حكم عبد الملك بن مروان، لتنتهي بمنهجية شاملة و مفصلة في التنقيط و النحو و قواعد الإعراب على يد الفارسي سيبويه خلال القرن الثاني الهجري الموافق للقرن الثامن الميلادي، أي حوالي 6 قرون بعد الفترة التي نقش فيها شاهد القبر بالأبجدية النبطية الذي يتحدث عن إمرئ القيس ملك الحيرة.

أي أن مسار تطور اللغة العربية هو بالفعل متأخر جدا عن تاريخ كتابة القرآن كما نعرفه اليوم.

من جهة أخرى و بالمفهوم الديني المطلق، تعتبر اللغة العربية لغة مقدسة منزلة من عند الله، فالقرآن في الإسلام  يتجاوز مفهوم الكتاب المقدس المتعارف عليه في الأديان الإبراهيمية، بحيث يصبح مكتوبا في اللوح المحفوظ و منزلا من السماء عبر الملاك المرسل من عند الله جبريل على محمد في إطار ما يسمى بالوحي، بل يذهب المفهوم أبعد من ذلك حين يصر على كون اللغة العربية لغة أهل الجنة في الآخرة، ويصر شيوخ و رجال الدين منذ بداية الإسلام على أن أول من نطق باللغة العربية هو إسماعيل الذي ترك لغة ابيه وفي سن الرابعة عشر بعد أن ألهمه الله هذه اللغة السماوية (مقدمة ابن خلدون الجزء الثاني، الصفحة 86 ) ويقول بعضهم أن اللغة العربية هي التي كان يتكلم بها آدم أبو البشرية، و أن الله قد علمه إياها قبل نزوله من الجنة، و هي كلها تفسيرات خرافية و غيبية ذات نزعة و توجه قومي أخرق يرتبط أساسا بالفترة التي بدأ فيها عرب الجزيرة بغزو و إحتلال شعوب المناطق المجاورة لهم، في إطار ما يسمى زورا (بالفتوحات) الإسلامية، بينما هي في حقيقة الأمر سعي وراء إنشاء و مد إمبراطورية سياسية و عسكرية.

و هذا ما ينافي العقل و المنطق السوي، و ينافي كذلك ما أوردته كتب التاريخ حول تاريخ العرب كمجموعات بشرية و قبائل موزعة بين اليمن و نجد و الحجاز، و هي بحكم تحركها و تنقلها الدائم كرحل و وقوافل تجارة بعد ذلك، إحتكت بشعوب المنطقة و من الطبيعي جدا أن تتحدث مختلف اللغات التي كانت سائدة آنذاك، و هي نفس اللغات التي وجدت عدة مفردات و كلمات من بينها وسط القرآن الذي يصر المفسرون على كونه عربيا خالصا.

مخطوطات صنعاء هي مجموعة من المخطوطات والرقائق القرآنية تبلغ حوالي 4500 مخطوطة، كتبت بالخط الكوفي والحجازي وغيرها من الخطوط غير المنقوطة، تعد من أقدم النصوص القرآنية الموجودة تم اكتشافها مع عدد من المخطوطات التاريخية في الجامع الكبير بصنعاء القديمة عام 1972.
مخطوطات صنعاء هي مجموعة من المخطوطات والرقائق القرآنية تبلغ حوالي 4500 مخطوطة، كتبت بالخط الكوفي والحجازي وغيرها من الخطوط غير المنقوطة، تعد من أقدم النصوص القرآنية الموجودة تم اكتشافها مع عدد من المخطوطات التاريخية في الجامع الكبير بصنعاء القديمة عام 1972.

بل إن كلمة قرآن نفسها ليست كلمة عربية في الأصل بل سريانية، و قد أخذت عن كلمة قريانا السريانية، و هي تعمي كتاب الصلوات الكنسية، و قد أخذ الإسم من اللغة السريانية، لتشابه السياق بين كتاب المسلمين المقدس و كتاب الصلوت الكنسية لدى السريان، بل حتى تسمية فرقان نفسها ليست عربية بل سريانية أيضا و تعني الخلاص بالمفهوم المسيحي الصرف، أي فداء البشرية و خطايا الناس بصلب المسيح، و كلمة سورة أيضا ليست عربية بل سريانية و أصلها شورة، و تعني : النص الديني.

مهدي بوعبيد

16/03/2018