معادلة التخلف في المجتمعات المتدينة : التوحد مع الإله و غياب الوعي‎‎

من فرط إرتباطه الدائم و هوسه بالجانب الميتافيزيقي من الوجود يعاني الإنسان المتدين من حالة عميقة و متقدمة من الإنفصال التام عن الواقع بكل مكوناته، فهو متوحد بشكل كلي و مستمر مع الآلهة رغم أنها في واقع الأمر مفارقة له بل غائبة تماما عن المشهد لكونها آلهة تتحرك داخل عالم الغيب المجهول تماما بالنسبة له، و هو ما يجهل الإنسان كنهه عاجة يكون دائما مصدر خوف و ترقب دائم بالنسبة له؛ بينما في نفس الوقت، نراه يستدعيها في كل أفعاله و حركاته و قراراته و تفكيره طيلة الوقت، بل و يضعها كشرط ضمني حاضر يرتكز عليه في كل ما يحدث من حوله.
الفلاح المتدين مثلا سوف يعتقد دوما بأن حضور أو غياب المطر مرتبط بمدى رضى الآلهة عنه و عن المجتمع الذي يعيش فيه، و بالنسبة له فكل ما إبتعد هو أو هذا المجتمع عن الطريق الذي تفرضه الآلهة و تعتبره طريقا “قويما” لا يجب الحياد عنه، فسوف يجلب عليه ذلك غضب الآلهة التي سوف تعاقبه بمنع المطر عن أرضه و زراعته. و داخل هذا الميكانيزم المرتبط مرضيا بعالم الغيب يغيب المنطق تماما و يغيب الوعي الوعي كليا، فعقل الفلاح هنا لا يرى الواقع و لا مكوناته و لا تفاصيله الدقيقة و لا يعتمد عليها لفهم سبب غياب المطر، هل هو جفاف أم تغيير مناخي عابر، و هل يمكنه تجاوز هذا العائق بوسائل أخرى تمكنه من تعويض المطر، و لذلك يلجأ إلى الميكانيزمات الميتافيزيقية التي يمارسها دائما و يعرفها جيدا و يثق بقدرتها على التغيير الإيجابي الذي يسعى إليه، رغم كونها لا تغير شيئا على أرض الواقع، و رد فعله قد يختلف هنا فهو قد يكتفي بأن يمارس طقوسه التعبدية في شكل بسيط من أشكال الإرتباط بالعالم الغيبي الذي يعتقد بأنه هو القادر على تغيير الواقع الذي يعجز عن التعامل مع تفاصيله، أو قد يكون رد فعله أكثر راديكالية فيلجأ لمحاولة تغيير هذا الواقع بالقوة لكي يوافق معتقده الغيبي طمعا في إرضاء الآلهة، و هذه الجزئية نعرفها نحن جيدا في العالم الإسلامي، لكونها هي المؤسس الحقيقي لظهور ما يسمى بالفاشية الإسلامية التي تفرض نفسها على كافة مكونات المجتمع، و هذا راجع لكون الأسلام يقدم نفسه كحقيقة واحدة نهائية و مطلقة لا شيء يسبقها أو يأتي بعدها من السماء، و بذلك تمتلك هذه الحقيقة المشروعية الإلهية لإلغاء كل ما و من يختلف معها أيا كان وضعه .
و لنا أن نتخيل هنا مدى التأثير السلبي لهذا التوحد مع الإله و الإنفصال عن الواقع الذي ينتج عنه، فلديك هنا مجتمع منفصل تماما عن وضعه الحقيقي يكل مأساويته و بالتالي فوعيه أيضا غائب تماما ما دام لا يحتكم لتفاصيل و مكونات هذا الواقع، إذن على المستوى الحضاري سوف يكون عاجزا عن مواجهة كافة الصعوبات و التحديات التي تواجهها الشعوب و المجتمعات عبر التاريخ، فهو لا يرى فيها صعوبات يفرضها عليه الواقع الذي يتحرك داخله، بل غضبا إلهيا راجعا لحياده عن الطريق “القويم” أو إمتحانا لمدى إيمانه بهاته الآلهة التي أخبرته في أدبياتها بأن المعاناة التي يتعرض لها هي إمتحان فعلي من الإله الذي يريد أن يتيقن من مدى صلابة إيمان البشر به، و هذا في حد ذاته سلوك بشري نزق و طفولي يعبر عن الأنانية أكثر مما يعبر عن الألوهية. و بالتالي فلن يسعى أبدا لإستخدام عقله و مهاراته و ملكاته لمواجهة هذه الصعوبات و محاولة تغييرها أو التغلب عليها، بل سيضع كل هذا جانبا و يتجه لأقرب معبد او مسجد أو كنيسة لكي يناجي آلهته و يتذلل و يتضرع إليها لترفع عنه “البلاء”، أو يلجأ لفرض حقيقته “المطلقة” على الآخرين بالقوة لأنهم قد حادوا عن طريق الهداية و الإيمان الحق، إما برفض ممارسة تلك الطقوس التعبدية أو عدم الإمتثال لتعاليم و تشريعات الآلهة، و هذا ما يشكل لدى الإنسان المؤمن تلك القناعة الثابتة بمفهوم الإصطفاء، حين تحوله الآلهة لأداة من أدوات فرض إرادتها على البشر، و تأمره و تحرضه على تغيير المنكر، بل تنجح في إقناعه بأن هذا التكليف هو من صميم الإيمان الذي لا يكتمل بدونه، و هنا نجد الإنسان المتدين يتحول لرقيب على المجتمع الذي يسعى لتحويله إلى نسخة “قويمة” ترضي الآلهة حسب رؤيته الميتافيزيقية للعالم و الوجود بكل مكوناته، و هنا سوف يصطدم مع عامل آخر يفرض نفسه بقوة داخل أي جماعة بشرية أيا كان شكلها، و هو الإختلاف كمعطى أساسي لدى الإنسان ككائن حي.
فالبشر كلهم يسعون غريزيا نحو الإختلاف عن بعضهم البعض في عدة جوانب، و هذا في حد ذاته رد فعل طبيعي على سلطة المجتمع سواء كان ممثلا في العائلة أو القبيلة أو الحي أو المدينة أو حتى البلد الذي يعيش فيه، و أية محاولة لإلغاء هذا الحق في الإختلاف أو قمعه و منعه و طرده من المشهد العام عادة ما تنتهي إلى مواجهات عنيفة و صدامات قد تتطور بسرعة لتتحول لحروب و صراعات دامية، ﻷن محاولة إلغاء حق الإختلاف هي قمع لحرية غريزية لدى البشر، و عادة ما تكون النتيجة المباشرة إما دولا و مجتمعات مفككة يقاتل بعضها بعضا في إطار حروب أهلية، أو دولا فاشلة و عاجزة عن التطور و الإرتقاء لما هو أفضل على كافة المستويات سواء كانت حضارية أو إجتماعية أو سياسية أو إقتصادية، لكونها منشغلة بصراعات تافهة تبحث عن مواطن الإختلاف و تحاول قمعها عوض البحث عن نقاط الإلتقاء التي توحد المجتمع في إتجاه واحد يعود بالنفع الإيجابي على أفراده، و بالتالي فهي مجتمعات تبقى متكلسة في مكانها و لا تنتج شيئا ذا قيمة، و تكتفي بإستهلاك ما ينتجه الآخرون بينما تتقاتل لفرض رؤية ميتافيزيقية غيبية و سخيفة على الجميع حتى أولئك الذين لا يؤمنون بهذه الرؤية و يرفضونها، لأنها تؤمن ضمنيا بأن ما تريده الآلهة للبشر هو ما يصح بالضرورة، و على الجميع الإمتثال له حتى بالقوة دون أن تأخذ بعين الإعتبار تلك الحقائق القاسية التي يفرضها واقع عالمي يتغير و يتطور بسرعة متزايدة كل يوم.
كل ما سبق أعلاه يفسر لنا أساس الصراع المشروع مع سلطة الميتافيزيقا الدينية اليوم، فهي باطلة لأنها أولا غائبة عن الواقع و منفصلة عنه تماما، و ثانيا هذا الإنفصال ينتج وعيا مغيبا ة عاجزا عن التعامل مع العالم، و بالتالي فهذا النوع من المجتمعات محكوم عليه بالتخلف و التأخر في كل شيء مهما حاول إدعاء العكس.
مهدي بوعبيد
18/07/2018

أضف تعليق