من دين مغمور إلى أداة سياسية قصة قسطنطين العظيم و المسيحية – الجزء الأول –

لم تكن الديانات الإبراهيمية الثلاث تعبيرا عن إرادة إلهية، بقدر ما كانت أدوات لتحقيق إرادة قومية و سياسية على أرض الواقع.
إن الدراسة المتأنية و العقلانية لتاريخ هاته الديانات هي الوحيدة الكفيلة بإلقاء الضوء على تلك المرحلة المفصلية التي يتضاءل فيها الجانب الروحي لتحتل مكانه السياسة بكل تشعباتها و تداخلاتها مع النزعات القومية، لتحول الدين إلى أداة تمكن من تركيز السلطة في يد أشخاص معينين، هاته اللحظة الحاسمة ينقطع فيها حبل الوصل بين الآلهة في السماء و بين المؤمنين بها على الأرض لتتحول إلى آلهة مفارقة بحق، لا وجود لها إلا في النصوص.
في الديانة اليهودية نجد هاته المرحلة الحساسة تتبلور مع أسطورة الخروج اليهودي من مصر و دخول أرض كنعان و قتل و ذبح سكانها تحقيقا لوعد الإله يهوه لشعبه المختار، وقد شكلت لحمة جديدة و قوية سمحت بتوحيد القبائل البدوية التي كانت تعيش في أرض كنعان القديمة، و نجحت فعليا في توحيد قبيلتي يهوذا و السامرة في كيان واحد، بعد أن كانتا خاضعتان للتأثير المباشر للحضارات و الإمبراطوريات الضخمة التي تحيط بها من كل جانب. -راجع المقال التالي- :
بينما في الإسلام، يمكن تحديد هاته اللحظة الحاسمة، في حروب الردة التي شنها الخليفة الأول أبو بكر ضد قبائل العرب بعد موت محمد، فرغم تسميتها بحروب الردة، إلا أنها لم تكن قطعا دفاعا عن الدين الذي ارتد عنه العرب، بل دفاعا عن سلطة سياسية وليدة و تفتقد إلى المشروعية التي تمكنها من التمدد، خاصة أن القبائل التي اتهمت بالردة، لم ترتد فعلا عن الدين و لكنها رفضت دفع أموال الزكاة و الصدقات للخليفة الذي لم يبايعه أحد خارج مكة و المدينة، و فضلت كل قبيلة توزيع أموالها على فقراءها دون تسلط من أحد، و هو لم يعجب الخليفة، خاصة و أن المال هو سلاح السلطة الأول في مواجهة العصبية القبلية.
 أما في المسيحية، نجد القطيعة مع السماء تحدث في اللحظة التي إدعى فيها الإمبراطور الروماني قسطنطين أنه قد رأى صليبا نازلا من السماء خلال معركة جسر ميلفيو عام 312 ميلادية ضد منافسه على عرش روما القيصر مكسنتيوس (MAXENTIUS)، و هي نفس اللحظة التي تحولت فيها المسيحية من مجرد دين هامشي تنكل روما بأتباعه و ترمي بهم إلى الأسود و المجالدين (Gladiators) إلى الديانة الرسمية للإمبراطورية، لكن كيف تغير المشهد بهذه السرعة، و تحولت روما التي ظلت وثنية طيلة قرون، إلى دين شبه مجهول يعتنقه الفقراء و الجنود لتجعل منه الدين الرسمي للدولة .. ؟؟!
لوحة تصور رمز المسيح و هو يظهر لقسطنطين في السماء ليلة معركة جسر ميلفيوس، من رسم الفنان الفلاماني بيتر بول روبنز Peter Paul Rubens و توجد حاليا بمتحف الفن مدينة فيلادلفيا الأمريكية.
لوحة تصور رمز المسيح و هو يظهر لقسطنطين في السماء ليلة معركة جسر ميلفيوس، من رسم الفنان الفلاماني بيتر بول روبنز Peter Paul Rubens و توجد حاليا بمتحف الفن مدينة فيلادلفيا الأمريكية.
لقد تحولت المسيحية من مجرد أفكار إصلاحية تتمحور حول اليهودية و تهدف إلى الحد من سلطة الحاخامات المطلقة على الشعب إلى وسيلة سياسية إستخدمها الإمبراطور الروماني قسطنطين في مواجهته مع خصمه الإمبراطور مكسنتيوس في معركة جسر ميلفيوس شمال روما في يوم 28 من شهر أكتوبر للعام 312 ميلادية، و قد كانت معركة فاصلة وضعت حدا لصراعات سياسية نتج عنها تقسيم الإمبراطورية الشاسعة إلى عدة دويلات يحكمها سبعة قياصرة، و لأنه كان في منتهى البراغماتية السياسية، فقد بقي قسطنطين وثنيا و لم يؤمن بالمسيح طيلة حياته و لم يعمد إلا على سرير وفاته من قِبل مؤرخه الأول و مستشاره الديني الراهب يوسابيوس النيقوميدي، و لا زالت الكنيستان الكاثوليكية و الأرثوذكسية تصران على كون قصة رؤيته المقدسة إبان المعركة معجزة حقيقية من السماء، بحيث يروي المؤرخ أوساويوس القيصري أن قسطنطين في الليلة التي سبقت المواجهة الحاسمة، قد نظر إلى السماء ورأى صليباً هابطا من فوق نور الشمس ومعه كلمات باليونانية تقول “فز بهذا”، و عندها أمر قسطنطين قواته برسم الصليب رمز المسيحية  على دروعهم و راياتهم، و بعد ذلك انتصروا فعلا رغم أن عددهم كان أقل من عديد جيش الخصم، و رغم تشبث الكنيسة الكاثوليكية بهاته الرواية الميتافيزيقية، التي تتنافس المصادر المسيحية في التغني بها، إلا أنها تتعمد إغفال ذكر تفصيل مهم جدا في هذه اللحظة الفاصلة في التاريخ، فالصراع ما بين قسطنطين و مكسنتيوس كان جزءا من صراع أكبر بعد تشتت السلطة في روما بين سبعة حكام، كل واحد منهم سيطر على حيز جغرافي من الإمبراطورية تحت حكمه و عين نفسه قيصرا، و أكثرهم طموحا و عزما كان هو الإمبراطور قسطنطين، و المسيحية التي كانت مجرد دين مغمور حينها لم تكن إلا أداة استخدمها بمنتهى الحصافة و الذكاء لتكريس طموحه في السلطة، و من هنا خرجت قصة الرؤية الإعجازية التي لم تكن سوى مناورة ذكية جدا من الإمبراطور، بحيث كان يعرف جيدا أن الديانة المسيحية الفتية منتشرة جدا بين الجنود الرومان (Centurions)، رغم كونها ديانة مضطهدة من طرف روما و يتعرض أتباعها للتنكيل بهم بأبشع الطرق منذ عهد الإمبراطور المجنون نيرون (حكم خلال الفترة ما بين العام 54 و 68 ميلادية) الذي إتهم المسيحيين بإحراق روما، و هذا ما تؤكده اللقى الأثرية العديدة في مواقع الحصون الرومانية القديمة و التي عثر فيها على رمز الصليب محفورا على الحجارة، و تاريخها يعود للقرن الأول و الثاني الميلادي، قبل مجيء قسطنطين للحكم خلال القرن الرابع، و لأنه كان متأكدا أن جيش خصمه مكسنتيوس يحوي جنودا مسيحيين أيضا، فقد تفتق عقله عن هذه الرؤيا المعجزة التي نجحت في توحيد هؤلاء الجنود تحت راياته التي أمر برسم الصليب عليها، ليحول موقعه في نفس اللحظة و بمنتهى الذكاء من قائد عسكري يطمح للإستئثار بحكم الإمبراطورية الرومانية الممتدة إلى نصير للمسيحيين المضطهدين، اختارته السماء بعد أن اختصته برؤيا هي أقرب إلى الوحي الذي تلقاه المسيح، و هو ما حول المعركة تماما إلى صالحه، و استطاع قلب الموازين و سحق خصمه، و دخول روما كإمبراطور مكلل بنصر إلهي، لقد تحول في وقت وجيز إلى نبي تتحدث إليه السماء و تأمره بنصرة أتباعها المستضعفين.
لكن هذا النصر لم يكن كافيا لضمان السيطرة المطلقة على دواليب الحكم في الإمبراطورية الضخمة، فإلى جانب المسيحية، كانت طبقة الضباط و القادة في الجيش و طبقة النخبة السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية في غالبيتها العظمى تتبع الديانة الميثرائية، نسبة إلى إله وثني قديم هو ميثراس، و رغم كونها مناقضة تماما للمسيحية في مفاهيمها العامة، سوف ينجح قسطنطين في حركة في منتهى الذكاء في الدمج بينها و بين المسيحية، ليخلق بذلك دينا جديدا تماما يوحد به رعايا الإمبراطورية من أقصى غرب أوروبا إلى آسيا الصغرى مرورا بشمال إفريقيا تحت سلطته.
خريطة توضح مدى إنتشار الديانة الميثرائية في الإمبراطورية الرومانية خلال القرن الثالث الميلادي قبل وصول قسطنطين للحكم، إلى جانب اليهودية و عبادة الإله جوبيتر - بعل، إلى جانب المسيحية التي انتشرت بقوة خلال القرن الرابع الميلادي. النقاط الحمراء تبين أماكن المعابد الميثرائية التي كانت منتشرة في كل أنحاء الإمبراطورية، من الأناضول، إلى مصر مرورا بشمال إفريقيا و على كامل امتداد القارة الأوروبية.
خريطة توضح مدى إنتشار الديانة الميثرائية في الإمبراطورية الرومانية خلال القرن الثالث الميلادي قبل وصول قسطنطين للحكم، إلى جانب اليهودية و عبادة الإله جوبيتر – بعل، إلى جانب المسيحية التي انتشرت بقوة خلال القرن الرابع الميلادي. النقاط الحمراء تبين أماكن المعابد الميثرائية التي كانت منتشرة في كل أنحاء الإمبراطورية، من الأناضول، إلى مصر مرورا بشمال إفريقيا و على كامل امتداد القارة الأوروبية.
و هذا ما تؤكده اللقى الأثرية اليوم، حيث اكتشفت في شمال إنجلترا تحت بقايا حائط هادريان The Hadrian Wall (هو عبارة عن حائط دفاعي ضخم بنته روما في اقصى شمال بريطانيا، لحماية حدودها من هجمات البرابرة المتكررة، و قد دعمته بعدة حصون و حاميات عسكرية يتمركز فيها الجنود) على الحدود مع اسكتلندا حصون عسكرية رومانية تعود لمنتصف القرن الميلادي الأول و قد نقش رمز الصليب على حجارتها، و هو ما يؤكد أن المسيحية لم تكن ديانة غريبة على جنود الإمبراطورية حتى في أبعد حدودها الجغرافية، و إلى جانب ذلك وجدت معابد كاملة مخصصة لعبادة للإله ميثراس، غير أن حجمها و طريقة بناءها تؤكد أن الديانة بطقوسها كانت جد نخبوية، و المعابد لم يكن يرتادها الجنود العاديون بل القادة و الضباط في الجيش، و من الضروري التأكيد على تفصيل مهم جدا عند هذه النقطة، و هو أن قسطنطين نفسه قد كان في صغره قائدا في الجيش الروماني في بريطانيا، و والده كذلك، و هذا ما يؤكد أنه قد كان حينها من أتباع الديانة الوثنية، و التي تعلم طقوسها و مبادئها هناك، و هذا ما جعله قادرا فيما بعد على استخدامها إلى جانب المسيحية كأداة سياسية وحد بها الجيش و النبلاء و القادة تحت إمرته ليصل الى هدفه الأسمى و هو توحيد و حكم الإمبراطورية المفككة كلها من الغرب إلى الشرق.
منحوتة تعود للحقبة الرومانية تمثل الولادة المعجزة للإله ميثرا من الصخرة، و قد عثر عليها شمال بريطانيا و توجد حاليا بمتحف نيوكاسل.
منحوتة تعود للحقبة الرومانية تمثل الولادة المعجزة للإله ميثرا من الصخرة، و قد عثر عليها شمال بريطانيا و توجد حاليا بمتحف نيوكاسل.
في الجزء الثاني من هذا البحث، سوف نتعرض بالتفصيل لسلسلة الإصلاحات الدينية التي دشنها قسطنطين العظيم، و التي حولت مركز الإمبراطورية، من غرب البحر الأبيض المتوسط الى شرقه، إلى عاصمته الجديدة، القسطنطينية.
مهدي بوعبيد
19/09/2018

الإسلام و الجزية، تاريخ من الخزي و العار – الجزء الثاني

في الجزء الأول من هذا المقال كنا قد بينا التأصيل الشرعي لمسألة الجزية و سبب نزولها في القرآن، و بينا الملابسات السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية التي أدت إلى إضافة هذا الحكم الشرعي لبقية أحكام الإسلام في دولة محمد الناشئة و الضعيفة، و التي كانت في أمس الحاجة للموارد الإقتصادية.

رابط المقال : الجزية و بشرية القرآن (الجزء الأول)

في هذا الجزء سوف نتعرض لبعض النفاصيل الخاصة بالتطبيق العملي لفقه الجزية إبان الغزو الإسلامي العربي لبلدان الشرق الأوسط و شمال إفريقيا.

عند البحث في تاريخ الجزية، أول ما تجده أمام عينيك في كتب التاريخ لدينا، هو تلك المقارنة السمجة مع الحضارات السابقة، فالغالبية العظمى من المؤرخين المسلمين و العرب ينزعون نحو الحديث عن كون الجزية كتطبيق عملي ناتج عن الغزو و الحروب ليست من محدثات الإسلام، بل قديمة جدا و ترجع إلى أولى الحضارات التي دون الناريخ تفاصيلها، فقد فرضها الرومان على كافة مستعمراتهم بدون إستثناء بداية من غرب أوروبا و وصولا للشام، و فرضها الفرس على الفينيقيين، و اليونان على سكان سواحل آسيا الصغرى، و هذه المقارنة في حد ذاتها هي تعبير واضح عن إحساس ضمني بالخجل و الخزي من ممارسة بعيدة كل البعد عن المفاهيم الإلهية و الدينية المنزهة عن تصرفات البشر التي تهتم بمصلحتها الآنية أولا، غير أن أصل تنزيل الحكم و وروده في القرآن و تطبيق النبي له مباشرة بعد نزول الآية 29 من سورة التوبة، في غزوة تبوك، يحيلنا على حاجة بشرية ضرورية أولا، و لم تنزل الآية في القرآن إلا كتعبير مباشر عن هاته الحاجة و تشريع إلهي للممارسة كفعل حلال و مشروع يأمر به الله أتباعه من المسلمين. (أنظر المقال السابق).

 

الآية 29 من سورة التوبة, القانون المشرع و المنظم لمفهوم الجزية
الآية 29 من سورة التوبة, القانون المشرع و المنظم لمفهوم الجزية

 

و رغم كوننا نستنكر هاته المقارنة لكونها تضع الله في موضع البشر، لكن لا أحد ممن درسوا التاريخ يستطيع إنكار كون الممارسة ضاربة في التاريخ بشدة، فهي قديمة بقدم البشر، و بقدم أواى الغزوات التي قامت بها جماعات من البشر ضد القرى أو المستوطنات أو المدن الأولى التي عرفت إستقرارا جغرافيا نتج عنه إستقرار إقتصادي و توافر للموارد الطبيعية الضرورية (فلاحة، ماء، مراعي، قطعان حيوانات أليفة، خطوط تجارة أو محطات توقف القوافل)، و بهذا لم يخل التاريخ القديم من حضارة بشرية واحدة لم تلجأ للجزية كمدخول إقتصادي ثابت و وفير يستتبع كل التحركات العسكرية من غزو و إستعمار، و بنفس المنطق البشري الخالص لم تحد الدولة الإسلامية الوليدة عن هاته القاعدة الثابتة، فهي دولة ضعيفة بالمفهوم العسكري و محدودة جغرافيا، و تحتاج لتوفير موارد إقتصادية ثابتة و دائمة لإعاشة أتباعها، و الغزو (ما يسمى بالفتح في الأدبيات الإسلامية) كان هو الوسيلة المتوفرة آنذاك، أما الحكم الوارد في القرآن بخصوص الجزية، فهو ليس إلا تعبيرا “إلهيا” عن حاجة بشرية خالصة، تعبر عن الإنتهازية أكثر مما تعبر عن إرادة الله في خلقه.

على المستوى الفقهي كانت أحكام الجزية مثار خلاف دائم بين الفقهاء و الشيوخ، خاصة في ما يخص مقدارها و طريقة تأديتها، فالقرآن لم ينص على مقدار ثابت لها، لكن النبي محمد حدَّد ما يجب في المال من الزكاة، أما الجزية، فقد ذكر أنه قد أمر معاذًا أن يأخذ من كل حالِم دينارًا أو عدْله من المَعافر، وأخذ عمر بن الخطاب أكثر من ذلك في بعض الأحيان؛ حيث يروي أبو عبيد أنه قد فرض على أهلِ الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهمًا، ومع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافتهم ثلاثة أيام عنوة، و قد كانت جزية أهل الشام أكثر من جزية أهل اليمن في عهد عمر بن الخطاب فالنبي قد أوصى بأهل اليمن قبل وفاته لم يوصي بأهل الشام. و قد فرض عمر على بني تغلب ضعْف الزكاة عندما أنِفوا من الجزية، و هذا الاختلاف في فرْض الجزية في عهد عمر بن الخطاب جعل الفقهاء يختلفون فيما بعد في تحديد مقدارها :

– المالكية: يرون أن الجزية غير مقدَّرة بحد أدنى أو أقصى، ويقدِّرها الأئمة تبعا للوضع الإقتصادي و الإجتماعي لسكان البلاد التي تم “فتحها” غزوها.
– والحنفية: يرون أنها على ثلاث فئات: الأغنياء ثمانية وأربعين درهمًا، و متوسطوا الحالة يدفعون أربعة وعشرين درهمًا، والفقراء يدفعون اثني عشر درهمًا، ولا يُزاد على ذلك ولا يُنقص، بينما صير أغلب دعاة تجديد “تدليس” الخطاب الديني أنها قد سقطت عن الفقراء بأمر النبي محمد، لكن واقع الأمر يؤكد عكس ذلك كما سنرى في التفاصيل التاريخية الواردة عن طريقة جمع الجزية في البلدان التي تم غزوها.
-أما الشافعية: فيرون أن الجزية لا يجوز أن تقل غلى دينار على الغني والفقير، ويجوز للولاة أن يَزيدوها مِثلما فعل عمر.
– أما الحنابلة: فيَروون عنهم الآراء الثلاثة السابقة، و هم أقرب لرأي المالكية، لكنهم يصرون على الأداء في وضع الذلة و الصغار تطبيقا للآية 29 من سورة التوبة.

و من أحكام الجزية كما قال أحمد بن إدريس (القرافي) في كتاب الفروق : ” إن قاعدة الجزية من باب التزام المفسدة الدنيا لدفع المفسدة العليا وتوفّع المصلحة، وذلك هو شأن القواعد الشّرعيّة، بيانه: أن الكافر إذا قتل انسدّ عليه باب الإيمان، وباب مقام سعادة الإيمان، وتحتم عليه الكفر والخلود في النار، وغضب الدّيّان، فشرع اللّه الجزية رجاء أن يسلم في مستقبل الأزمان، لا سيما باطّلاعه على محاسن الإسلام، و الإلحاح إليه بالذل والصغار في أخذ الجزية “.

 

النص القرآني يؤكد على أن دفع الجزية يجب أن يتم على حالة من الذلة و الصغار.
النص القرآني يؤكد على أن دفع الجزية يجب أن يتم على حالة من الذلة و الصغار.

 

و يحق لي أن أتساءل هنا، كيف لمن يتعرض للغزو و يفرض عليه إستعمار و إستيطان من شعب آخر بقوة السلاح و يفرض عليه أداء أتاوة مالية مدى الحياة لمستعمره مشروطة بالدفع على الذلة و الصغار، أن يحصل لديه إيمان أو إعتقاد صحيح بالدين أو أحكامه أو الأخلاق و القيم و المعاملات التي يدعو إليها، أو حتى يثق بكونه دينا حقا منزلا من عند الله الحق خالق كل شيء و العالم بكل شيء، بينما هذا الإله يشرع لمستعمره أن يحتل أرضه و يتملك امواله و يسيطر على موارده و يأخذ ماله بسلطة دينية لا جدال و لا نقاش معها، و إن إعنرض على الأمر خرج من عهد الذمة و أصبح ماله و عرضه و دمه و كل ما يملكه حلال لهذا المستعمر الغائر عليه من قلب صحراء الجزيرة … ؟؟!!!!

لا يتحمل هذا المشهد و لو ذرة واحدة من القداسة أو الألوهية التي يتخيلها المسلمون اليوم، بل هو في حقيقته مصدر للخزي و الخجل و العار في حق أمة تدعي كونها خير أمة أخرجت للناس، بينما أول ما عرف البشر من دعوتها للدين الجديد هو حد السيف و سرقة الأموال و نهب الممتلكات و سبي النساء و الأطفال، و كل ذلك بأمر إلهي، فالجزية في الإسلام ليست هي تلك التي تدفعها الدول المنهزمة للدول المنتصرة في حالات الغزو و الحرب و المواجهات العسكرية، فنحن هنا أمام تشريع ديني محض، يكون فيه دفع المال مفروضا لقاء حق الإحتفاظ بحرية المعتقد و الدين، فأين التسامح الإسلامي الذي صدعوا به رؤوسنا هنا … ؟؟!!!

و في تفسير القرطبي للآية 29 من سورة التوبة يقول : “وَ قَالَ اِبْن الْجَهْم : تُقْبَل الْجِزْيَة مِنْ كُلّ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الْإِسْلَام ….. فَقَالَ عُلَمَاء الْمَالِكِيَّة : وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْل بِسَبَبِ الْكُفْر. وَقَالَ الشَّافِعِيّ : وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الدَّم وَسُكْنَى الدَّار. وَفَائِدَة الْخِلَاف أَنَّا إِذَا قُلْنَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْل فَأَسْلَمَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجِزْيَة لِمَا مَضَى”، فأما أنها لقاء حماية أهل الكتاب و الدفاع عنهم، فلا أدري عن أي دفاع يتحدث، و هم قوم مسالمون يعيشون في بلدانهم و لم يعتدوا على المسلمين في شيء، و لولا حكم جهاد الطلب الذي نعرفه جميعا لما إلتقى هؤلاء بهؤلاء، و التهديد بالوقوع تحت السيف و سلب المال و نهب الأرض و سبي الذرية قد جاء من أصحاب الدعوة للدين الجديد في شكل جديد من أشكال التبشير الديني لم يكن العالم يعرفه من قبل لا في المسيحية و لا في اليهودية و لا حتى في ما سبقها من الديانات الوثنية الأخرى.

 

4 دنانير ذهبية عن كل شخص بالغ.
4 دنانير ذهبية عن كل شخص بالغ.

 

و يقول إبن سعد في كتابه الطبقات الكبرى عن عمرو بن العاص عند غزو مصر : “وضع الجزية علي جماجم أهل الذمة فيما فتح من البلدان..”، أما إبن القيم فقدِ سماها «خراج رؤوس الكفار» فيقول :”الْجِزْيَةُ هِيَ الْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَى رُءُوسِ الْكُفَّارِ إذْلَالًا وَصِغَارًا”. و مما يرويه المقريزى في كتابه المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار :” قدم صاحب أخنا على عمرو بن العاص رضي اللّه عنه فقال له: أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فنصير لها. فقال عمرو و هو يشير إلى ركن كنيسة : لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك ما عليك إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم “، و حتى عندما إقترح عمرو بن العاص على عمر بن الخطاب أن يقوم بغزو مصر، لم يكن ذلك بعدف نشر الإسلام و إنما بقوله : ” يا أمير المؤمنين . إئذن لى أنْ أسير إلى مصر. هى أكثر الأرض أموالا. وأعجزها عن القتال والحرب “، فالهدف واضح و بين هنا، فالغزو قد كان بدافع الحثول على المال و الموارد التي تنقص الدولة الفتية، و لعلم عمرو بن العاص حينها بأن أهل مصر ليسوا بأصحاب حرب و لا قتال، فهم واقعون تحت الإحتلال البيزنطي لقرون، و أكثر الناس خضوعا له، منا يسهل عملية غزوهم و إستعمار بلادهم، و نحن هنا بعيدون تماما عن تلك الصورة المغرقة في النبل التي تكتنف صفحات كنب التاريخ الإسلامي عندما يتحدث عما يسمونه “بالفتوحات الإسلامية”، فتلك الفتوحات لم تكن إلا إستكمالا لممارسات عرف بها عرب الجزيرة فيما بينهم قبل قرون من مجيء الإسلام، هذا الدين الجديد الذي أبقى على تلك العادات و لم يقف عند ذلك الحد بل شرعها بأوامر إلهية واضحة في القرآن و رغب فيها أتباعه.

بل إن عمرو بن العاص قد تمادى في أحكامه الجائرة على أقباط مصر و التي أقره عليه الخليفة عمر بن الخطاب و لم يأمره بتركها، ففرض على أهل مصر أن يستضيفوا كل عربي يدخل مدنهم و قراهم وسط بيوتهم و عائلاتهم مدة ثلاثة أيام دون أدنى سؤال أو إعتراض، و زاد عن ذلك بأن أقر ملكية كل عربي لأي بيت يضرب رمحه وسطه حتى لو كان له أصحاب ” من ركز رمحه فى دار فهى له ولبنى أبيه”، فهؤلاء كفار و مشركون بحكم إلهي، و معترضون على الدين الحق الذي جاءهم ذكره في التوراة و الإنجيل من قبل، و ما يقع عليهم من الذلة و الصغار و المهانة هو جزاء الله على جحودهم لهذا الدين الذي جاء به رسوله. و سوف تذكر كتب التاريخ أبد الدهر تلك الجملة المخزية التي نادى بها عمرو بن العاص في أقباط مصر بعد قدر عليهم و إستسلموا لحكمه، حيث قال : ” من كتمنى كنزًا عنده فقدرت عليه قتلته “، و يحكى حينها أن كافة أعل مصر قد أخرجوا ما لديهم من ذهب و فضة و أموال خوفا من تهديده الصريح لهم بالقتل، و تهديد عمرو بن العاص رغم فظاظته لا يخرج عن سنة النبي محمد فيما سبق، فقد ورد في سيرة إبن هشام عن إبن إسحاق في حرب يهود بني النضير : ” و أتى رسول الله بكنانة بن الربيع وكان عنده كنز بني النضير فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه فأتى رسول الله رجل من يهود فقال لرسول الله : إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة فقال رسول الله لكنانة أرأيت إن وجدناه عندك ، أأقتلك قال نعم. فأمر رسول الله بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم ثم سأله عما بقي فأبى أن يؤديه فأمر به رسول الله الزبير بن العوام ، فقال عذبه حتى تستأصل ما عنده فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه – أي عذبه بالنار حتى أشرف على الموت- ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة “. فالفعل هنا ثابت في السيرة النبوية و لم يفعل أكثر من تطبيق سنة نبيه فيما سبق.

و في عام المجاعة بعث عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص كتابا يقول فيه : ” إلى العاص بن العاص . فإنك لعمرى لا تبالى إذا سمنتَ أنت ومن معك أنْ أعجف أنا ومن قبلى . فياغوثاه ياغوثاه . فكتب إليه عمرو بأنه سيرسل له قافلة من العير أولها عندك وآخرها عندى “، فمصر إذن ليست إلا خزينة لعرب الجزيرة و دولتهم الجديدة، يأخذون منها ما أرادو متى أرادوا و بتشريع إلعي سماوس لا يملك مسلم واحد أن يناقشه اليوم، فالحكم ثابت في القرآن بالنص الواضح و بإجماع أئمة المذاهب الأربعة.

و جدير بالذكر أن الجزية قد بقيت مضروبة على نصارى و أقباط مصر منذ الغزو الإسلامي إلى عام 1855 حين قام الوالي سعيد إبن محمد علي بإصدار مرسوم إلغاء تام لها مع كل الشروط التي ترافقها مثل منع الأقباط من دخول الجيش و إنشاء مدارس و كليات خاصة بهم، بل سمح لهم حتى بممارسة طقوسهم الدينية داخل الجيش بكل حرية، منهيا بذلك تاريخا طويلا من العنصرية و القهر و الظلم في حق أقلية دينية تعتبر هي أصلا صاحبة الأرض، و لا يفوتني أن أذكر هنا أن مرسوم الإلغاء هذا قد أثرا مشكلة كبيرة مع شيوخ الأزهر و فقهاءه، إذ أن رواتبهم كانت تدفع من الجزية التي تتم جبايتها من الأقباط كل سنة. و قد قامت باقي الولايات العثمانية بإصدار مراسيم إلغاء مشابهة بدءا من عام 1857.

و لنترك مصر جانبا و نتجه شمالا صوب بلاد الشام، لنتحدث قليلا عما يسمى بالعهدة العمرية و هي كتاب عمر ابن الخطاب لأهل إيلياء ” القدس” بعد “فتحها عام 638 ميلادية.

نص العهدة العمرية عن كتاب “أحكام أهل الذمة” لإبن القيم الجوزية
عن عبد الرحمن بن غنم :

كتبتُ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام، وشرَط عليهم فيه :

الا يُحدِثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب،
ولا يجدِّدوا ما خُرِّب،
ولا يمنعوا كنائسهم من أن ينزلها أحدٌ من المسلمين ثلاث ليالٍ يطعمونهم،
ولا يؤووا جاسوساً،
ولا يكتموا غشاً للمسلمين،
ولا يعلّموا أولادهم القرآن،
ولا يُظهِروا شِركاً،
ولا يمنعوا ذوي قرابتهم من الإسلام إن أرادوا،
وأن يوقّروا المسلمين،
وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس،
ولا يتشبّهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم،
ولا يتكنّوا بكناهم،
ولا يركبوا سرجاً،
ولا يتقلّدوا سيفاً،
ولا يبيعوا الخمور،
وأن يجُزُّوا مقادم رؤوسهم،
وأن يلزموا زيَّهم حيثما كانوا،
وأن يشدّوا الزنانير على أوساطهم،
ولا يُظهِروا صليباً ولا شيئاً من كتبهم في شيءٍ من طرق المسلمين،
ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم،
ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفيفاً،
ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين،
ولا يخرجوا شعانين،
ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم،
ولا يَظهِروا النيران معهم،
ولا يشتروا من الرقيق ما جَرَتْ عليه سهام المسلمين،
فإن خالفوا شيئاً مما شرطوه فلا ذمّة لهم،
وقد حلّ للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق، ”

و فوق كل ما سبق ذكره فقد فرض عمر على أهل القدس أداء الجزية، و لكم أن تتخيلوا من كمية الشروط و القيود التي فرضت على مسيحيي القدس قدر الإجحاف و الظلم الذي وقع عليهم، فهذه الوثيقة هي ترجمة لإرادة مستعمر قام بغزو بلد بقوة السلاح و سيطر على شعبها و مقدراتها و فرض نظاما سياسيا و إجتماعيا و إقتصاديا و دينيا يستحوذ فيه على كل شيء و يفرض به دينه بالقوة على الشعب الواقع تحت سلطته الغاشمة، و من يرفض فعليه أن يؤدي إتاوة لقاء الإحتفاظ بحياته و بحقه في الإعتقاد بالدين الذي يريده، و بجانب ذلك يصبح مجبرا على العيش على الهامش تماما مقصيا من كل أشكال الحياة العامة بما فيها من أنشطة طبيعية قد يمارسها أي شخص بمنتهى الحرية، مثل حرية العبادة و ممارسة الطقوس الدينية و بناء دور العبادة، بل هو مجبر على تمييز نفسه عن المسلمين بحلاقة شعر محددة و لباس معين و عليه أن يخلي الطريق للمسلم عند مروره و ينهض له من مكانه لكي يجلس فيه، كما أنه ممنوع من حمل السلاح أو ركوب الخيل، أو حتى الظهور بعلامات مميزة لإعتقاده الديني، و لا يحق له منع أي مسلم من دخول الكنيسة بل يجبر على إستضافته داخلها لثلاثة أيام أكلا و شربا و مبيتا، و هذا غيض من فيض. إذا لم يكن كل ما ذكر أعلاه قمة العنصرية و التطرف و الإقصاء فماذا يكون، و كأني أقرأ مرسوم القوات الألمانية النازية الذي فرضته على يهود بولونيا حين غزت البلد و سيطرت عليه لأكثر من خمس سنوات إبان الحرب العالمية الثانية … !!!

تاريخ الجزية كحكم ديني مؤكد بنص من القرآن و كممارسة سياسية و إقتصادية و دينية مجحفة يمثل إحدى أكثر مظاهر التطرف و العنصرية الإسلامية إثارة للعار و الخزي، و مهما إدعى الشيوخ و رجال الدين اليوم من الكذب و التدليس حول كونها مماثلة لفريضة الزكاة أو تعويضا عن الدفاع عن أهل الكتاب في حالة الحرب هو محض إفتراء كبير، و لعل ابرز دليل على ذلك هو كون عصابات داعش و جبهة النصرة في العراق و سوريا لم تتردد لجظة واحدة في تطبيق هذا الحكم على من وقع تحت أيديها من الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط، فهم بذلك يطبقون حكما إلهيا لا شبهة في صحته و لا مشروعيته.

مهدي بوعبيد

14/09/2018

معادلة التخلف في المجتمعات المتدينة : التوحد مع الإله و غياب الوعي‎‎

من فرط إرتباطه الدائم و هوسه بالجانب الميتافيزيقي من الوجود يعاني الإنسان المتدين من حالة عميقة و متقدمة من الإنفصال التام عن الواقع بكل مكوناته، فهو متوحد بشكل كلي و مستمر مع الآلهة رغم أنها في واقع الأمر مفارقة له بل غائبة تماما عن المشهد لكونها آلهة تتحرك داخل عالم الغيب المجهول تماما بالنسبة له، و هو ما يجهل الإنسان كنهه عاجة يكون دائما مصدر خوف و ترقب دائم بالنسبة له؛ بينما في نفس الوقت، نراه يستدعيها في كل أفعاله و حركاته و قراراته و تفكيره طيلة الوقت، بل و يضعها كشرط ضمني حاضر يرتكز عليه في كل ما يحدث من حوله.
الفلاح المتدين مثلا سوف يعتقد دوما بأن حضور أو غياب المطر مرتبط بمدى رضى الآلهة عنه و عن المجتمع الذي يعيش فيه، و بالنسبة له فكل ما إبتعد هو أو هذا المجتمع عن الطريق الذي تفرضه الآلهة و تعتبره طريقا “قويما” لا يجب الحياد عنه، فسوف يجلب عليه ذلك غضب الآلهة التي سوف تعاقبه بمنع المطر عن أرضه و زراعته. و داخل هذا الميكانيزم المرتبط مرضيا بعالم الغيب يغيب المنطق تماما و يغيب الوعي الوعي كليا، فعقل الفلاح هنا لا يرى الواقع و لا مكوناته و لا تفاصيله الدقيقة و لا يعتمد عليها لفهم سبب غياب المطر، هل هو جفاف أم تغيير مناخي عابر، و هل يمكنه تجاوز هذا العائق بوسائل أخرى تمكنه من تعويض المطر، و لذلك يلجأ إلى الميكانيزمات الميتافيزيقية التي يمارسها دائما و يعرفها جيدا و يثق بقدرتها على التغيير الإيجابي الذي يسعى إليه، رغم كونها لا تغير شيئا على أرض الواقع، و رد فعله قد يختلف هنا فهو قد يكتفي بأن يمارس طقوسه التعبدية في شكل بسيط من أشكال الإرتباط بالعالم الغيبي الذي يعتقد بأنه هو القادر على تغيير الواقع الذي يعجز عن التعامل مع تفاصيله، أو قد يكون رد فعله أكثر راديكالية فيلجأ لمحاولة تغيير هذا الواقع بالقوة لكي يوافق معتقده الغيبي طمعا في إرضاء الآلهة، و هذه الجزئية نعرفها نحن جيدا في العالم الإسلامي، لكونها هي المؤسس الحقيقي لظهور ما يسمى بالفاشية الإسلامية التي تفرض نفسها على كافة مكونات المجتمع، و هذا راجع لكون الأسلام يقدم نفسه كحقيقة واحدة نهائية و مطلقة لا شيء يسبقها أو يأتي بعدها من السماء، و بذلك تمتلك هذه الحقيقة المشروعية الإلهية لإلغاء كل ما و من يختلف معها أيا كان وضعه .
و لنا أن نتخيل هنا مدى التأثير السلبي لهذا التوحد مع الإله و الإنفصال عن الواقع الذي ينتج عنه، فلديك هنا مجتمع منفصل تماما عن وضعه الحقيقي يكل مأساويته و بالتالي فوعيه أيضا غائب تماما ما دام لا يحتكم لتفاصيل و مكونات هذا الواقع، إذن على المستوى الحضاري سوف يكون عاجزا عن مواجهة كافة الصعوبات و التحديات التي تواجهها الشعوب و المجتمعات عبر التاريخ، فهو لا يرى فيها صعوبات يفرضها عليه الواقع الذي يتحرك داخله، بل غضبا إلهيا راجعا لحياده عن الطريق “القويم” أو إمتحانا لمدى إيمانه بهاته الآلهة التي أخبرته في أدبياتها بأن المعاناة التي يتعرض لها هي إمتحان فعلي من الإله الذي يريد أن يتيقن من مدى صلابة إيمان البشر به، و هذا في حد ذاته سلوك بشري نزق و طفولي يعبر عن الأنانية أكثر مما يعبر عن الألوهية. و بالتالي فلن يسعى أبدا لإستخدام عقله و مهاراته و ملكاته لمواجهة هذه الصعوبات و محاولة تغييرها أو التغلب عليها، بل سيضع كل هذا جانبا و يتجه لأقرب معبد او مسجد أو كنيسة لكي يناجي آلهته و يتذلل و يتضرع إليها لترفع عنه “البلاء”، أو يلجأ لفرض حقيقته “المطلقة” على الآخرين بالقوة لأنهم قد حادوا عن طريق الهداية و الإيمان الحق، إما برفض ممارسة تلك الطقوس التعبدية أو عدم الإمتثال لتعاليم و تشريعات الآلهة، و هذا ما يشكل لدى الإنسان المؤمن تلك القناعة الثابتة بمفهوم الإصطفاء، حين تحوله الآلهة لأداة من أدوات فرض إرادتها على البشر، و تأمره و تحرضه على تغيير المنكر، بل تنجح في إقناعه بأن هذا التكليف هو من صميم الإيمان الذي لا يكتمل بدونه، و هنا نجد الإنسان المتدين يتحول لرقيب على المجتمع الذي يسعى لتحويله إلى نسخة “قويمة” ترضي الآلهة حسب رؤيته الميتافيزيقية للعالم و الوجود بكل مكوناته، و هنا سوف يصطدم مع عامل آخر يفرض نفسه بقوة داخل أي جماعة بشرية أيا كان شكلها، و هو الإختلاف كمعطى أساسي لدى الإنسان ككائن حي.
فالبشر كلهم يسعون غريزيا نحو الإختلاف عن بعضهم البعض في عدة جوانب، و هذا في حد ذاته رد فعل طبيعي على سلطة المجتمع سواء كان ممثلا في العائلة أو القبيلة أو الحي أو المدينة أو حتى البلد الذي يعيش فيه، و أية محاولة لإلغاء هذا الحق في الإختلاف أو قمعه و منعه و طرده من المشهد العام عادة ما تنتهي إلى مواجهات عنيفة و صدامات قد تتطور بسرعة لتتحول لحروب و صراعات دامية، ﻷن محاولة إلغاء حق الإختلاف هي قمع لحرية غريزية لدى البشر، و عادة ما تكون النتيجة المباشرة إما دولا و مجتمعات مفككة يقاتل بعضها بعضا في إطار حروب أهلية، أو دولا فاشلة و عاجزة عن التطور و الإرتقاء لما هو أفضل على كافة المستويات سواء كانت حضارية أو إجتماعية أو سياسية أو إقتصادية، لكونها منشغلة بصراعات تافهة تبحث عن مواطن الإختلاف و تحاول قمعها عوض البحث عن نقاط الإلتقاء التي توحد المجتمع في إتجاه واحد يعود بالنفع الإيجابي على أفراده، و بالتالي فهي مجتمعات تبقى متكلسة في مكانها و لا تنتج شيئا ذا قيمة، و تكتفي بإستهلاك ما ينتجه الآخرون بينما تتقاتل لفرض رؤية ميتافيزيقية غيبية و سخيفة على الجميع حتى أولئك الذين لا يؤمنون بهذه الرؤية و يرفضونها، لأنها تؤمن ضمنيا بأن ما تريده الآلهة للبشر هو ما يصح بالضرورة، و على الجميع الإمتثال له حتى بالقوة دون أن تأخذ بعين الإعتبار تلك الحقائق القاسية التي يفرضها واقع عالمي يتغير و يتطور بسرعة متزايدة كل يوم.
كل ما سبق أعلاه يفسر لنا أساس الصراع المشروع مع سلطة الميتافيزيقا الدينية اليوم، فهي باطلة لأنها أولا غائبة عن الواقع و منفصلة عنه تماما، و ثانيا هذا الإنفصال ينتج وعيا مغيبا ة عاجزا عن التعامل مع العالم، و بالتالي فهذا النوع من المجتمعات محكوم عليه بالتخلف و التأخر في كل شيء مهما حاول إدعاء العكس.
مهدي بوعبيد
18/07/2018

هل كانت عداوة محمد ليهود المدينة دينية فعلا أم سياسية .. ؟؟!!‎

مما يذكر في سيرة إبن هشام و السيرة الحلبية عن بيعة الأنصار للنبي محمد يوم العقبة الأولى و العقبة الثانية، أن الأصل في بيعة الأنصار هما قبيلتا الأوس و الخزرج بيثرب و هاتان القبيلتان كانتا في حرب دائمة فيما بينهما و في نفس الوقت كانت كل واحدة منهما متحالفة مع يهود المدينة من بني قريضة و بني النضير سواء بالتجارة أو بالمال أو لحاجة الأوس و الخزرج الدائمة للسلاح و يهود المدينة كانت لهم سيطرة شبه مطلقة على تصنيع و تجارة السلاح في يثرب آنذاك، و قد كان شر الحرب بين القبيلتين- و التي دامت أكثر من مائة سنة – يطال اليهود في كل معركة تشتعل بينهما، فكل مواجهة عسكرية ترتد ضد القبيلة المهاجمة و حلفاءها أو من يرتبطون معها بتجارة أو سلاح، مما جعل يهود المدينة الذين كانوا يعيشون حالة ضعف سياسي دائم و هم تحت سطوة القبائل العربية حينها يقولون و يرددون : ” هذا زمان نبي قد أطل و إقترب ظهوره بين الناس، و إن كان كذلك لنتبعنه فنقتلكم معه قتل عاد و إرم “.
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يتلقى الوحي من جبريل في غار حراء.
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يتلقى الوحي من جبريل في غار حراء.
 و قد بقي النبي يومها زمنا طويلا يذهب لمواسم القبائل في الجزيرة العربية يعرض عليها نفسه و يدعوهم لحمايته و نصرة دعوته بين العرب و التحالف معه ضد قريش و هو الملاحق من زعماء مكة و أعيانها بكل قدراتهم المالية و السياسية و حتى العسكرية، و لما حدث أن دعا بعضا من أعيان الأوس و الخزرج لنفس الشأن، تذكر هؤلاء حديث اليهود عن ظهور نبي جديد، فقالوا هذا هو الذي توعدنا به اليهود فلننتهز هذه الفرصة و نبادرهم و نسبقهم إليه فننصره و نقتلهم به قبل أن يسبقونا إليه فيقتلونا به، فصدقوه و بايعوه في يوم العقبة الثانية على النصرة و الحرب و القتال.
و بما أن عداوة الأوس و الخزرج لليهود قد بقيت قائمة حتى بعد هجرة الرسول للمدينة، فقد صار محمد هو الآخر عدوا لهم بحكم بيعتهم له في يوم العقبة الثانية، و هذا ما يؤكد أن عداوة محمد لليهود و عداوتهم له قد بدأت فعليا في هذا اليوم، و بعد أن كان يذكرهم في القرآن من قبل في الآيات المكية بالخير و المديح هم و أنبياؤهم كأهل كتاب يؤمنون بالله، ثم بعد بيعة الأنصار له و هجرته ليثرب أعمل فيهم القتل و الغزو و السلب و النهب و التهجير حتى أفناهم و أنهى وجودهم في المدينة و ما حولها، مما يجعل ذلك نتيجة منطقية و ضرورية لنصرة أعداء اليهود للرسول و إجتماعهم على أمره في تحالف مصالح واضح.
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يلقي خطبة حجة الوداع
منمنمة فارسية قديمة تصور محمد و هو يلقي خطبة حجة الوداع
ما سبق هو قراءة بتصرف شديد لما ترويه كتب السير عن بيعة الأنصار و هم قبيلتي الأوس و الخزرج لمحمد، و ما نتج عن بعد ذلك من إفناء ليهود المدينة سواء بالقتل أو التهجير و الطرد من بيوتهم و أراضيهم.
الكثيرون من بيننا يقرأون هاته الأحداث قراءة دينية محضة داخل إطار يقدس كل ما يحكى عن دعوة محمد بشكل مفرط و مبالغ فيه، و من الطبيعي أن تغيب عنها الرؤية السياسية التي تبين أن الأمر كان سياسياً بالدرجة الأولى قبل أن يكون دعوة لدين جديد.
مهدي بوعبيد
16/07/2018