الإسلام و الجزية، تاريخ من الخزي و العار – الجزء الثاني

في الجزء الأول من هذا المقال كنا قد بينا التأصيل الشرعي لمسألة الجزية و سبب نزولها في القرآن، و بينا الملابسات السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية التي أدت إلى إضافة هذا الحكم الشرعي لبقية أحكام الإسلام في دولة محمد الناشئة و الضعيفة، و التي كانت في أمس الحاجة للموارد الإقتصادية.

رابط المقال : الجزية و بشرية القرآن (الجزء الأول)

في هذا الجزء سوف نتعرض لبعض النفاصيل الخاصة بالتطبيق العملي لفقه الجزية إبان الغزو الإسلامي العربي لبلدان الشرق الأوسط و شمال إفريقيا.

عند البحث في تاريخ الجزية، أول ما تجده أمام عينيك في كتب التاريخ لدينا، هو تلك المقارنة السمجة مع الحضارات السابقة، فالغالبية العظمى من المؤرخين المسلمين و العرب ينزعون نحو الحديث عن كون الجزية كتطبيق عملي ناتج عن الغزو و الحروب ليست من محدثات الإسلام، بل قديمة جدا و ترجع إلى أولى الحضارات التي دون الناريخ تفاصيلها، فقد فرضها الرومان على كافة مستعمراتهم بدون إستثناء بداية من غرب أوروبا و وصولا للشام، و فرضها الفرس على الفينيقيين، و اليونان على سكان سواحل آسيا الصغرى، و هذه المقارنة في حد ذاتها هي تعبير واضح عن إحساس ضمني بالخجل و الخزي من ممارسة بعيدة كل البعد عن المفاهيم الإلهية و الدينية المنزهة عن تصرفات البشر التي تهتم بمصلحتها الآنية أولا، غير أن أصل تنزيل الحكم و وروده في القرآن و تطبيق النبي له مباشرة بعد نزول الآية 29 من سورة التوبة، في غزوة تبوك، يحيلنا على حاجة بشرية ضرورية أولا، و لم تنزل الآية في القرآن إلا كتعبير مباشر عن هاته الحاجة و تشريع إلهي للممارسة كفعل حلال و مشروع يأمر به الله أتباعه من المسلمين. (أنظر المقال السابق).

 

الآية 29 من سورة التوبة, القانون المشرع و المنظم لمفهوم الجزية
الآية 29 من سورة التوبة, القانون المشرع و المنظم لمفهوم الجزية

 

و رغم كوننا نستنكر هاته المقارنة لكونها تضع الله في موضع البشر، لكن لا أحد ممن درسوا التاريخ يستطيع إنكار كون الممارسة ضاربة في التاريخ بشدة، فهي قديمة بقدم البشر، و بقدم أواى الغزوات التي قامت بها جماعات من البشر ضد القرى أو المستوطنات أو المدن الأولى التي عرفت إستقرارا جغرافيا نتج عنه إستقرار إقتصادي و توافر للموارد الطبيعية الضرورية (فلاحة، ماء، مراعي، قطعان حيوانات أليفة، خطوط تجارة أو محطات توقف القوافل)، و بهذا لم يخل التاريخ القديم من حضارة بشرية واحدة لم تلجأ للجزية كمدخول إقتصادي ثابت و وفير يستتبع كل التحركات العسكرية من غزو و إستعمار، و بنفس المنطق البشري الخالص لم تحد الدولة الإسلامية الوليدة عن هاته القاعدة الثابتة، فهي دولة ضعيفة بالمفهوم العسكري و محدودة جغرافيا، و تحتاج لتوفير موارد إقتصادية ثابتة و دائمة لإعاشة أتباعها، و الغزو (ما يسمى بالفتح في الأدبيات الإسلامية) كان هو الوسيلة المتوفرة آنذاك، أما الحكم الوارد في القرآن بخصوص الجزية، فهو ليس إلا تعبيرا “إلهيا” عن حاجة بشرية خالصة، تعبر عن الإنتهازية أكثر مما تعبر عن إرادة الله في خلقه.

على المستوى الفقهي كانت أحكام الجزية مثار خلاف دائم بين الفقهاء و الشيوخ، خاصة في ما يخص مقدارها و طريقة تأديتها، فالقرآن لم ينص على مقدار ثابت لها، لكن النبي محمد حدَّد ما يجب في المال من الزكاة، أما الجزية، فقد ذكر أنه قد أمر معاذًا أن يأخذ من كل حالِم دينارًا أو عدْله من المَعافر، وأخذ عمر بن الخطاب أكثر من ذلك في بعض الأحيان؛ حيث يروي أبو عبيد أنه قد فرض على أهلِ الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهمًا، ومع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافتهم ثلاثة أيام عنوة، و قد كانت جزية أهل الشام أكثر من جزية أهل اليمن في عهد عمر بن الخطاب فالنبي قد أوصى بأهل اليمن قبل وفاته لم يوصي بأهل الشام. و قد فرض عمر على بني تغلب ضعْف الزكاة عندما أنِفوا من الجزية، و هذا الاختلاف في فرْض الجزية في عهد عمر بن الخطاب جعل الفقهاء يختلفون فيما بعد في تحديد مقدارها :

– المالكية: يرون أن الجزية غير مقدَّرة بحد أدنى أو أقصى، ويقدِّرها الأئمة تبعا للوضع الإقتصادي و الإجتماعي لسكان البلاد التي تم “فتحها” غزوها.
– والحنفية: يرون أنها على ثلاث فئات: الأغنياء ثمانية وأربعين درهمًا، و متوسطوا الحالة يدفعون أربعة وعشرين درهمًا، والفقراء يدفعون اثني عشر درهمًا، ولا يُزاد على ذلك ولا يُنقص، بينما صير أغلب دعاة تجديد “تدليس” الخطاب الديني أنها قد سقطت عن الفقراء بأمر النبي محمد، لكن واقع الأمر يؤكد عكس ذلك كما سنرى في التفاصيل التاريخية الواردة عن طريقة جمع الجزية في البلدان التي تم غزوها.
-أما الشافعية: فيرون أن الجزية لا يجوز أن تقل غلى دينار على الغني والفقير، ويجوز للولاة أن يَزيدوها مِثلما فعل عمر.
– أما الحنابلة: فيَروون عنهم الآراء الثلاثة السابقة، و هم أقرب لرأي المالكية، لكنهم يصرون على الأداء في وضع الذلة و الصغار تطبيقا للآية 29 من سورة التوبة.

و من أحكام الجزية كما قال أحمد بن إدريس (القرافي) في كتاب الفروق : ” إن قاعدة الجزية من باب التزام المفسدة الدنيا لدفع المفسدة العليا وتوفّع المصلحة، وذلك هو شأن القواعد الشّرعيّة، بيانه: أن الكافر إذا قتل انسدّ عليه باب الإيمان، وباب مقام سعادة الإيمان، وتحتم عليه الكفر والخلود في النار، وغضب الدّيّان، فشرع اللّه الجزية رجاء أن يسلم في مستقبل الأزمان، لا سيما باطّلاعه على محاسن الإسلام، و الإلحاح إليه بالذل والصغار في أخذ الجزية “.

 

النص القرآني يؤكد على أن دفع الجزية يجب أن يتم على حالة من الذلة و الصغار.
النص القرآني يؤكد على أن دفع الجزية يجب أن يتم على حالة من الذلة و الصغار.

 

و يحق لي أن أتساءل هنا، كيف لمن يتعرض للغزو و يفرض عليه إستعمار و إستيطان من شعب آخر بقوة السلاح و يفرض عليه أداء أتاوة مالية مدى الحياة لمستعمره مشروطة بالدفع على الذلة و الصغار، أن يحصل لديه إيمان أو إعتقاد صحيح بالدين أو أحكامه أو الأخلاق و القيم و المعاملات التي يدعو إليها، أو حتى يثق بكونه دينا حقا منزلا من عند الله الحق خالق كل شيء و العالم بكل شيء، بينما هذا الإله يشرع لمستعمره أن يحتل أرضه و يتملك امواله و يسيطر على موارده و يأخذ ماله بسلطة دينية لا جدال و لا نقاش معها، و إن إعنرض على الأمر خرج من عهد الذمة و أصبح ماله و عرضه و دمه و كل ما يملكه حلال لهذا المستعمر الغائر عليه من قلب صحراء الجزيرة … ؟؟!!!!

لا يتحمل هذا المشهد و لو ذرة واحدة من القداسة أو الألوهية التي يتخيلها المسلمون اليوم، بل هو في حقيقته مصدر للخزي و الخجل و العار في حق أمة تدعي كونها خير أمة أخرجت للناس، بينما أول ما عرف البشر من دعوتها للدين الجديد هو حد السيف و سرقة الأموال و نهب الممتلكات و سبي النساء و الأطفال، و كل ذلك بأمر إلهي، فالجزية في الإسلام ليست هي تلك التي تدفعها الدول المنهزمة للدول المنتصرة في حالات الغزو و الحرب و المواجهات العسكرية، فنحن هنا أمام تشريع ديني محض، يكون فيه دفع المال مفروضا لقاء حق الإحتفاظ بحرية المعتقد و الدين، فأين التسامح الإسلامي الذي صدعوا به رؤوسنا هنا … ؟؟!!!

و في تفسير القرطبي للآية 29 من سورة التوبة يقول : “وَ قَالَ اِبْن الْجَهْم : تُقْبَل الْجِزْيَة مِنْ كُلّ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الْإِسْلَام ….. فَقَالَ عُلَمَاء الْمَالِكِيَّة : وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْل بِسَبَبِ الْكُفْر. وَقَالَ الشَّافِعِيّ : وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الدَّم وَسُكْنَى الدَّار. وَفَائِدَة الْخِلَاف أَنَّا إِذَا قُلْنَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْل فَأَسْلَمَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجِزْيَة لِمَا مَضَى”، فأما أنها لقاء حماية أهل الكتاب و الدفاع عنهم، فلا أدري عن أي دفاع يتحدث، و هم قوم مسالمون يعيشون في بلدانهم و لم يعتدوا على المسلمين في شيء، و لولا حكم جهاد الطلب الذي نعرفه جميعا لما إلتقى هؤلاء بهؤلاء، و التهديد بالوقوع تحت السيف و سلب المال و نهب الأرض و سبي الذرية قد جاء من أصحاب الدعوة للدين الجديد في شكل جديد من أشكال التبشير الديني لم يكن العالم يعرفه من قبل لا في المسيحية و لا في اليهودية و لا حتى في ما سبقها من الديانات الوثنية الأخرى.

 

4 دنانير ذهبية عن كل شخص بالغ.
4 دنانير ذهبية عن كل شخص بالغ.

 

و يقول إبن سعد في كتابه الطبقات الكبرى عن عمرو بن العاص عند غزو مصر : “وضع الجزية علي جماجم أهل الذمة فيما فتح من البلدان..”، أما إبن القيم فقدِ سماها «خراج رؤوس الكفار» فيقول :”الْجِزْيَةُ هِيَ الْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَى رُءُوسِ الْكُفَّارِ إذْلَالًا وَصِغَارًا”. و مما يرويه المقريزى في كتابه المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار :” قدم صاحب أخنا على عمرو بن العاص رضي اللّه عنه فقال له: أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فنصير لها. فقال عمرو و هو يشير إلى ركن كنيسة : لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك ما عليك إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم “، و حتى عندما إقترح عمرو بن العاص على عمر بن الخطاب أن يقوم بغزو مصر، لم يكن ذلك بعدف نشر الإسلام و إنما بقوله : ” يا أمير المؤمنين . إئذن لى أنْ أسير إلى مصر. هى أكثر الأرض أموالا. وأعجزها عن القتال والحرب “، فالهدف واضح و بين هنا، فالغزو قد كان بدافع الحثول على المال و الموارد التي تنقص الدولة الفتية، و لعلم عمرو بن العاص حينها بأن أهل مصر ليسوا بأصحاب حرب و لا قتال، فهم واقعون تحت الإحتلال البيزنطي لقرون، و أكثر الناس خضوعا له، منا يسهل عملية غزوهم و إستعمار بلادهم، و نحن هنا بعيدون تماما عن تلك الصورة المغرقة في النبل التي تكتنف صفحات كنب التاريخ الإسلامي عندما يتحدث عما يسمونه “بالفتوحات الإسلامية”، فتلك الفتوحات لم تكن إلا إستكمالا لممارسات عرف بها عرب الجزيرة فيما بينهم قبل قرون من مجيء الإسلام، هذا الدين الجديد الذي أبقى على تلك العادات و لم يقف عند ذلك الحد بل شرعها بأوامر إلهية واضحة في القرآن و رغب فيها أتباعه.

بل إن عمرو بن العاص قد تمادى في أحكامه الجائرة على أقباط مصر و التي أقره عليه الخليفة عمر بن الخطاب و لم يأمره بتركها، ففرض على أهل مصر أن يستضيفوا كل عربي يدخل مدنهم و قراهم وسط بيوتهم و عائلاتهم مدة ثلاثة أيام دون أدنى سؤال أو إعتراض، و زاد عن ذلك بأن أقر ملكية كل عربي لأي بيت يضرب رمحه وسطه حتى لو كان له أصحاب ” من ركز رمحه فى دار فهى له ولبنى أبيه”، فهؤلاء كفار و مشركون بحكم إلهي، و معترضون على الدين الحق الذي جاءهم ذكره في التوراة و الإنجيل من قبل، و ما يقع عليهم من الذلة و الصغار و المهانة هو جزاء الله على جحودهم لهذا الدين الذي جاء به رسوله. و سوف تذكر كتب التاريخ أبد الدهر تلك الجملة المخزية التي نادى بها عمرو بن العاص في أقباط مصر بعد قدر عليهم و إستسلموا لحكمه، حيث قال : ” من كتمنى كنزًا عنده فقدرت عليه قتلته “، و يحكى حينها أن كافة أعل مصر قد أخرجوا ما لديهم من ذهب و فضة و أموال خوفا من تهديده الصريح لهم بالقتل، و تهديد عمرو بن العاص رغم فظاظته لا يخرج عن سنة النبي محمد فيما سبق، فقد ورد في سيرة إبن هشام عن إبن إسحاق في حرب يهود بني النضير : ” و أتى رسول الله بكنانة بن الربيع وكان عنده كنز بني النضير فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه فأتى رسول الله رجل من يهود فقال لرسول الله : إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة فقال رسول الله لكنانة أرأيت إن وجدناه عندك ، أأقتلك قال نعم. فأمر رسول الله بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم ثم سأله عما بقي فأبى أن يؤديه فأمر به رسول الله الزبير بن العوام ، فقال عذبه حتى تستأصل ما عنده فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه – أي عذبه بالنار حتى أشرف على الموت- ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة “. فالفعل هنا ثابت في السيرة النبوية و لم يفعل أكثر من تطبيق سنة نبيه فيما سبق.

و في عام المجاعة بعث عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص كتابا يقول فيه : ” إلى العاص بن العاص . فإنك لعمرى لا تبالى إذا سمنتَ أنت ومن معك أنْ أعجف أنا ومن قبلى . فياغوثاه ياغوثاه . فكتب إليه عمرو بأنه سيرسل له قافلة من العير أولها عندك وآخرها عندى “، فمصر إذن ليست إلا خزينة لعرب الجزيرة و دولتهم الجديدة، يأخذون منها ما أرادو متى أرادوا و بتشريع إلعي سماوس لا يملك مسلم واحد أن يناقشه اليوم، فالحكم ثابت في القرآن بالنص الواضح و بإجماع أئمة المذاهب الأربعة.

و جدير بالذكر أن الجزية قد بقيت مضروبة على نصارى و أقباط مصر منذ الغزو الإسلامي إلى عام 1855 حين قام الوالي سعيد إبن محمد علي بإصدار مرسوم إلغاء تام لها مع كل الشروط التي ترافقها مثل منع الأقباط من دخول الجيش و إنشاء مدارس و كليات خاصة بهم، بل سمح لهم حتى بممارسة طقوسهم الدينية داخل الجيش بكل حرية، منهيا بذلك تاريخا طويلا من العنصرية و القهر و الظلم في حق أقلية دينية تعتبر هي أصلا صاحبة الأرض، و لا يفوتني أن أذكر هنا أن مرسوم الإلغاء هذا قد أثرا مشكلة كبيرة مع شيوخ الأزهر و فقهاءه، إذ أن رواتبهم كانت تدفع من الجزية التي تتم جبايتها من الأقباط كل سنة. و قد قامت باقي الولايات العثمانية بإصدار مراسيم إلغاء مشابهة بدءا من عام 1857.

و لنترك مصر جانبا و نتجه شمالا صوب بلاد الشام، لنتحدث قليلا عما يسمى بالعهدة العمرية و هي كتاب عمر ابن الخطاب لأهل إيلياء ” القدس” بعد “فتحها عام 638 ميلادية.

نص العهدة العمرية عن كتاب “أحكام أهل الذمة” لإبن القيم الجوزية
عن عبد الرحمن بن غنم :

كتبتُ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام، وشرَط عليهم فيه :

الا يُحدِثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب،
ولا يجدِّدوا ما خُرِّب،
ولا يمنعوا كنائسهم من أن ينزلها أحدٌ من المسلمين ثلاث ليالٍ يطعمونهم،
ولا يؤووا جاسوساً،
ولا يكتموا غشاً للمسلمين،
ولا يعلّموا أولادهم القرآن،
ولا يُظهِروا شِركاً،
ولا يمنعوا ذوي قرابتهم من الإسلام إن أرادوا،
وأن يوقّروا المسلمين،
وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس،
ولا يتشبّهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم،
ولا يتكنّوا بكناهم،
ولا يركبوا سرجاً،
ولا يتقلّدوا سيفاً،
ولا يبيعوا الخمور،
وأن يجُزُّوا مقادم رؤوسهم،
وأن يلزموا زيَّهم حيثما كانوا،
وأن يشدّوا الزنانير على أوساطهم،
ولا يُظهِروا صليباً ولا شيئاً من كتبهم في شيءٍ من طرق المسلمين،
ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم،
ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفيفاً،
ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين،
ولا يخرجوا شعانين،
ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم،
ولا يَظهِروا النيران معهم،
ولا يشتروا من الرقيق ما جَرَتْ عليه سهام المسلمين،
فإن خالفوا شيئاً مما شرطوه فلا ذمّة لهم،
وقد حلّ للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق، ”

و فوق كل ما سبق ذكره فقد فرض عمر على أهل القدس أداء الجزية، و لكم أن تتخيلوا من كمية الشروط و القيود التي فرضت على مسيحيي القدس قدر الإجحاف و الظلم الذي وقع عليهم، فهذه الوثيقة هي ترجمة لإرادة مستعمر قام بغزو بلد بقوة السلاح و سيطر على شعبها و مقدراتها و فرض نظاما سياسيا و إجتماعيا و إقتصاديا و دينيا يستحوذ فيه على كل شيء و يفرض به دينه بالقوة على الشعب الواقع تحت سلطته الغاشمة، و من يرفض فعليه أن يؤدي إتاوة لقاء الإحتفاظ بحياته و بحقه في الإعتقاد بالدين الذي يريده، و بجانب ذلك يصبح مجبرا على العيش على الهامش تماما مقصيا من كل أشكال الحياة العامة بما فيها من أنشطة طبيعية قد يمارسها أي شخص بمنتهى الحرية، مثل حرية العبادة و ممارسة الطقوس الدينية و بناء دور العبادة، بل هو مجبر على تمييز نفسه عن المسلمين بحلاقة شعر محددة و لباس معين و عليه أن يخلي الطريق للمسلم عند مروره و ينهض له من مكانه لكي يجلس فيه، كما أنه ممنوع من حمل السلاح أو ركوب الخيل، أو حتى الظهور بعلامات مميزة لإعتقاده الديني، و لا يحق له منع أي مسلم من دخول الكنيسة بل يجبر على إستضافته داخلها لثلاثة أيام أكلا و شربا و مبيتا، و هذا غيض من فيض. إذا لم يكن كل ما ذكر أعلاه قمة العنصرية و التطرف و الإقصاء فماذا يكون، و كأني أقرأ مرسوم القوات الألمانية النازية الذي فرضته على يهود بولونيا حين غزت البلد و سيطرت عليه لأكثر من خمس سنوات إبان الحرب العالمية الثانية … !!!

تاريخ الجزية كحكم ديني مؤكد بنص من القرآن و كممارسة سياسية و إقتصادية و دينية مجحفة يمثل إحدى أكثر مظاهر التطرف و العنصرية الإسلامية إثارة للعار و الخزي، و مهما إدعى الشيوخ و رجال الدين اليوم من الكذب و التدليس حول كونها مماثلة لفريضة الزكاة أو تعويضا عن الدفاع عن أهل الكتاب في حالة الحرب هو محض إفتراء كبير، و لعل ابرز دليل على ذلك هو كون عصابات داعش و جبهة النصرة في العراق و سوريا لم تتردد لجظة واحدة في تطبيق هذا الحكم على من وقع تحت أيديها من الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط، فهم بذلك يطبقون حكما إلهيا لا شبهة في صحته و لا مشروعيته.

مهدي بوعبيد

14/09/2018