من دين مغمور إلى أداة سياسية قصة قسطنطين العظيم و المسيحية – الجزء الأول –

لم تكن الديانات الإبراهيمية الثلاث تعبيرا عن إرادة إلهية، بقدر ما كانت أدوات لتحقيق إرادة قومية و سياسية على أرض الواقع.
إن الدراسة المتأنية و العقلانية لتاريخ هاته الديانات هي الوحيدة الكفيلة بإلقاء الضوء على تلك المرحلة المفصلية التي يتضاءل فيها الجانب الروحي لتحتل مكانه السياسة بكل تشعباتها و تداخلاتها مع النزعات القومية، لتحول الدين إلى أداة تمكن من تركيز السلطة في يد أشخاص معينين، هاته اللحظة الحاسمة ينقطع فيها حبل الوصل بين الآلهة في السماء و بين المؤمنين بها على الأرض لتتحول إلى آلهة مفارقة بحق، لا وجود لها إلا في النصوص.
في الديانة اليهودية نجد هاته المرحلة الحساسة تتبلور مع أسطورة الخروج اليهودي من مصر و دخول أرض كنعان و قتل و ذبح سكانها تحقيقا لوعد الإله يهوه لشعبه المختار، وقد شكلت لحمة جديدة و قوية سمحت بتوحيد القبائل البدوية التي كانت تعيش في أرض كنعان القديمة، و نجحت فعليا في توحيد قبيلتي يهوذا و السامرة في كيان واحد، بعد أن كانتا خاضعتان للتأثير المباشر للحضارات و الإمبراطوريات الضخمة التي تحيط بها من كل جانب. -راجع المقال التالي- :
بينما في الإسلام، يمكن تحديد هاته اللحظة الحاسمة، في حروب الردة التي شنها الخليفة الأول أبو بكر ضد قبائل العرب بعد موت محمد، فرغم تسميتها بحروب الردة، إلا أنها لم تكن قطعا دفاعا عن الدين الذي ارتد عنه العرب، بل دفاعا عن سلطة سياسية وليدة و تفتقد إلى المشروعية التي تمكنها من التمدد، خاصة أن القبائل التي اتهمت بالردة، لم ترتد فعلا عن الدين و لكنها رفضت دفع أموال الزكاة و الصدقات للخليفة الذي لم يبايعه أحد خارج مكة و المدينة، و فضلت كل قبيلة توزيع أموالها على فقراءها دون تسلط من أحد، و هو لم يعجب الخليفة، خاصة و أن المال هو سلاح السلطة الأول في مواجهة العصبية القبلية.
 أما في المسيحية، نجد القطيعة مع السماء تحدث في اللحظة التي إدعى فيها الإمبراطور الروماني قسطنطين أنه قد رأى صليبا نازلا من السماء خلال معركة جسر ميلفيو عام 312 ميلادية ضد منافسه على عرش روما القيصر مكسنتيوس (MAXENTIUS)، و هي نفس اللحظة التي تحولت فيها المسيحية من مجرد دين هامشي تنكل روما بأتباعه و ترمي بهم إلى الأسود و المجالدين (Gladiators) إلى الديانة الرسمية للإمبراطورية، لكن كيف تغير المشهد بهذه السرعة، و تحولت روما التي ظلت وثنية طيلة قرون، إلى دين شبه مجهول يعتنقه الفقراء و الجنود لتجعل منه الدين الرسمي للدولة .. ؟؟!
لوحة تصور رمز المسيح و هو يظهر لقسطنطين في السماء ليلة معركة جسر ميلفيوس، من رسم الفنان الفلاماني بيتر بول روبنز Peter Paul Rubens و توجد حاليا بمتحف الفن مدينة فيلادلفيا الأمريكية.
لوحة تصور رمز المسيح و هو يظهر لقسطنطين في السماء ليلة معركة جسر ميلفيوس، من رسم الفنان الفلاماني بيتر بول روبنز Peter Paul Rubens و توجد حاليا بمتحف الفن مدينة فيلادلفيا الأمريكية.
لقد تحولت المسيحية من مجرد أفكار إصلاحية تتمحور حول اليهودية و تهدف إلى الحد من سلطة الحاخامات المطلقة على الشعب إلى وسيلة سياسية إستخدمها الإمبراطور الروماني قسطنطين في مواجهته مع خصمه الإمبراطور مكسنتيوس في معركة جسر ميلفيوس شمال روما في يوم 28 من شهر أكتوبر للعام 312 ميلادية، و قد كانت معركة فاصلة وضعت حدا لصراعات سياسية نتج عنها تقسيم الإمبراطورية الشاسعة إلى عدة دويلات يحكمها سبعة قياصرة، و لأنه كان في منتهى البراغماتية السياسية، فقد بقي قسطنطين وثنيا و لم يؤمن بالمسيح طيلة حياته و لم يعمد إلا على سرير وفاته من قِبل مؤرخه الأول و مستشاره الديني الراهب يوسابيوس النيقوميدي، و لا زالت الكنيستان الكاثوليكية و الأرثوذكسية تصران على كون قصة رؤيته المقدسة إبان المعركة معجزة حقيقية من السماء، بحيث يروي المؤرخ أوساويوس القيصري أن قسطنطين في الليلة التي سبقت المواجهة الحاسمة، قد نظر إلى السماء ورأى صليباً هابطا من فوق نور الشمس ومعه كلمات باليونانية تقول “فز بهذا”، و عندها أمر قسطنطين قواته برسم الصليب رمز المسيحية  على دروعهم و راياتهم، و بعد ذلك انتصروا فعلا رغم أن عددهم كان أقل من عديد جيش الخصم، و رغم تشبث الكنيسة الكاثوليكية بهاته الرواية الميتافيزيقية، التي تتنافس المصادر المسيحية في التغني بها، إلا أنها تتعمد إغفال ذكر تفصيل مهم جدا في هذه اللحظة الفاصلة في التاريخ، فالصراع ما بين قسطنطين و مكسنتيوس كان جزءا من صراع أكبر بعد تشتت السلطة في روما بين سبعة حكام، كل واحد منهم سيطر على حيز جغرافي من الإمبراطورية تحت حكمه و عين نفسه قيصرا، و أكثرهم طموحا و عزما كان هو الإمبراطور قسطنطين، و المسيحية التي كانت مجرد دين مغمور حينها لم تكن إلا أداة استخدمها بمنتهى الحصافة و الذكاء لتكريس طموحه في السلطة، و من هنا خرجت قصة الرؤية الإعجازية التي لم تكن سوى مناورة ذكية جدا من الإمبراطور، بحيث كان يعرف جيدا أن الديانة المسيحية الفتية منتشرة جدا بين الجنود الرومان (Centurions)، رغم كونها ديانة مضطهدة من طرف روما و يتعرض أتباعها للتنكيل بهم بأبشع الطرق منذ عهد الإمبراطور المجنون نيرون (حكم خلال الفترة ما بين العام 54 و 68 ميلادية) الذي إتهم المسيحيين بإحراق روما، و هذا ما تؤكده اللقى الأثرية العديدة في مواقع الحصون الرومانية القديمة و التي عثر فيها على رمز الصليب محفورا على الحجارة، و تاريخها يعود للقرن الأول و الثاني الميلادي، قبل مجيء قسطنطين للحكم خلال القرن الرابع، و لأنه كان متأكدا أن جيش خصمه مكسنتيوس يحوي جنودا مسيحيين أيضا، فقد تفتق عقله عن هذه الرؤيا المعجزة التي نجحت في توحيد هؤلاء الجنود تحت راياته التي أمر برسم الصليب عليها، ليحول موقعه في نفس اللحظة و بمنتهى الذكاء من قائد عسكري يطمح للإستئثار بحكم الإمبراطورية الرومانية الممتدة إلى نصير للمسيحيين المضطهدين، اختارته السماء بعد أن اختصته برؤيا هي أقرب إلى الوحي الذي تلقاه المسيح، و هو ما حول المعركة تماما إلى صالحه، و استطاع قلب الموازين و سحق خصمه، و دخول روما كإمبراطور مكلل بنصر إلهي، لقد تحول في وقت وجيز إلى نبي تتحدث إليه السماء و تأمره بنصرة أتباعها المستضعفين.
لكن هذا النصر لم يكن كافيا لضمان السيطرة المطلقة على دواليب الحكم في الإمبراطورية الضخمة، فإلى جانب المسيحية، كانت طبقة الضباط و القادة في الجيش و طبقة النخبة السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية في غالبيتها العظمى تتبع الديانة الميثرائية، نسبة إلى إله وثني قديم هو ميثراس، و رغم كونها مناقضة تماما للمسيحية في مفاهيمها العامة، سوف ينجح قسطنطين في حركة في منتهى الذكاء في الدمج بينها و بين المسيحية، ليخلق بذلك دينا جديدا تماما يوحد به رعايا الإمبراطورية من أقصى غرب أوروبا إلى آسيا الصغرى مرورا بشمال إفريقيا تحت سلطته.
خريطة توضح مدى إنتشار الديانة الميثرائية في الإمبراطورية الرومانية خلال القرن الثالث الميلادي قبل وصول قسطنطين للحكم، إلى جانب اليهودية و عبادة الإله جوبيتر - بعل، إلى جانب المسيحية التي انتشرت بقوة خلال القرن الرابع الميلادي. النقاط الحمراء تبين أماكن المعابد الميثرائية التي كانت منتشرة في كل أنحاء الإمبراطورية، من الأناضول، إلى مصر مرورا بشمال إفريقيا و على كامل امتداد القارة الأوروبية.
خريطة توضح مدى إنتشار الديانة الميثرائية في الإمبراطورية الرومانية خلال القرن الثالث الميلادي قبل وصول قسطنطين للحكم، إلى جانب اليهودية و عبادة الإله جوبيتر – بعل، إلى جانب المسيحية التي انتشرت بقوة خلال القرن الرابع الميلادي. النقاط الحمراء تبين أماكن المعابد الميثرائية التي كانت منتشرة في كل أنحاء الإمبراطورية، من الأناضول، إلى مصر مرورا بشمال إفريقيا و على كامل امتداد القارة الأوروبية.
و هذا ما تؤكده اللقى الأثرية اليوم، حيث اكتشفت في شمال إنجلترا تحت بقايا حائط هادريان The Hadrian Wall (هو عبارة عن حائط دفاعي ضخم بنته روما في اقصى شمال بريطانيا، لحماية حدودها من هجمات البرابرة المتكررة، و قد دعمته بعدة حصون و حاميات عسكرية يتمركز فيها الجنود) على الحدود مع اسكتلندا حصون عسكرية رومانية تعود لمنتصف القرن الميلادي الأول و قد نقش رمز الصليب على حجارتها، و هو ما يؤكد أن المسيحية لم تكن ديانة غريبة على جنود الإمبراطورية حتى في أبعد حدودها الجغرافية، و إلى جانب ذلك وجدت معابد كاملة مخصصة لعبادة للإله ميثراس، غير أن حجمها و طريقة بناءها تؤكد أن الديانة بطقوسها كانت جد نخبوية، و المعابد لم يكن يرتادها الجنود العاديون بل القادة و الضباط في الجيش، و من الضروري التأكيد على تفصيل مهم جدا عند هذه النقطة، و هو أن قسطنطين نفسه قد كان في صغره قائدا في الجيش الروماني في بريطانيا، و والده كذلك، و هذا ما يؤكد أنه قد كان حينها من أتباع الديانة الوثنية، و التي تعلم طقوسها و مبادئها هناك، و هذا ما جعله قادرا فيما بعد على استخدامها إلى جانب المسيحية كأداة سياسية وحد بها الجيش و النبلاء و القادة تحت إمرته ليصل الى هدفه الأسمى و هو توحيد و حكم الإمبراطورية المفككة كلها من الغرب إلى الشرق.
منحوتة تعود للحقبة الرومانية تمثل الولادة المعجزة للإله ميثرا من الصخرة، و قد عثر عليها شمال بريطانيا و توجد حاليا بمتحف نيوكاسل.
منحوتة تعود للحقبة الرومانية تمثل الولادة المعجزة للإله ميثرا من الصخرة، و قد عثر عليها شمال بريطانيا و توجد حاليا بمتحف نيوكاسل.
في الجزء الثاني من هذا البحث، سوف نتعرض بالتفصيل لسلسلة الإصلاحات الدينية التي دشنها قسطنطين العظيم، و التي حولت مركز الإمبراطورية، من غرب البحر الأبيض المتوسط الى شرقه، إلى عاصمته الجديدة، القسطنطينية.
مهدي بوعبيد
19/09/2018