يهوه إله العهد القديم … من التعدد إلى التفرد – الجزء الثاني

تابعنا في الجزء الأول من هذا البحث المسار المفصل لظهور الحاجة لدى قبائل يهوذا و السامرة لإيجاد آلهة متفردة تمثل القومية اليهودية الناشئة، وسط بحر من الحضارات القديمة التي تمثل قوميات و إمبراطوريات قوية و ممتدة و أكثر تنظيما و إستقرارا على المستوى السياسي و العسكري بالخصوص. و رأينا كيف أن القبائل التي استوطنت منطقة الشام و البادية السورية و أرض فلسطين قد خرجت من حالة التبعية و التأثر السلبي بالحضارات المحيطة بها، إلى إنتاج منظومتها الدينية الخاصة بها عبر إختيار إله مغمور من مجمع الآلهة الكنعانية القديمة، و وضعه في مقام الإله المتفرد عن باقي الآلهة التي لم يكن يرفض وجودها في بداياته، بحيث يأخذ مكانه وسط عشرات الآلهة التي تعبدها و تقدسها الحضارات المحيطة بهاته القبائل، و هذا التفرد جعل هذا الإله يقبل فكرة التعدد لكن مع التأكيد في نفس الوقت على اختصاصه بقبائل أرض يهوذا والسامرة، تماما مثل أي شيخ قبيلة مع أتباعه، في إحالة واضحة على فكرة الطوطم التي مثلت أولى تصورات التجمعات البشرية الباليوليثية لشكل الآلهة.

في هذا التصور الأولي للإله المتفرد بقومية ناشئة، كان “يهوه” يقبل تماما بوجود آلهة أخرى متعددة تمثل بقية الشعوب و الحضارات و دياناتها و معتقداتها المختلفة، قبل أن يتحول في المرحلة الأخيرة لإله مطلق و يدخل حالة التوحيد بإعلانه عن نفسه كإله لشعبه المختار.

yhwh

من هو “يهوه” :

إن دراسة أصل هذا الإله قد عرفت تجاذبات كثيرة بين الباحثين في تاريخ الأديان و علماء التاريخ، فخارج كتب التوراة هذا الإسم لا يوجد له أي أثر أركيولوجي مدون قبل العام 1200 قبل الميلاد، و من المفيد التذكير هنا بأن الحضارات السابقة كلها لم تعرف نزعة توحيدية في الأديان و المعتقدات التي كانت تؤمن بها (باستثناء ديانة الإله “آتون” التوحيدية التي نشرها الفرعون أخناتون في مصر القديمة حوالي العام 1336 قبل الميلاد)، و تذكر الألواح الطينية المكتشفة في مدينة أوغاريت السورية و التي تعود للعام 1200 قبل الميلاد الإله “يهوه” الذي يظهر إسمه مختصرا بالكتابة المسمارية بصيغة “Yw“، و إن كانت هذه المعلومة محط خلاف شديد بين علماء التاريخ، الذين يصرون على كون القصص و الملاحم التي ترويها هذه الألواح هي أقدم بكثير من التاريخ المذكور.

تمثال صغير من البرونز و الذهب للإله بعل تم اكتشافه في منطقة أوغاريت شمال سوريا، موجود حالبا بمتحف اللوفر بباريس.
تمثال صغير من البرونز و الذهب للإله بعل تم اكتشافه في منطقة أوغاريت شمال سوريا، موجود حالبا بمتحف اللوفر بباريس.

و يمكن تفصيل النصوص التي جاء فيها ذكر “يهوه” تاريخيا بالشكل التالي :

– نصوص الألواح الأوغاريتية من شمال سوريا، و قد ذكر فيها الإله “يهوه” كإبن للإله “إيل أو عليون” و هو كبير آلهة الكنعانيين، و النص يعود للألف الثاني قبل الميلاد.

– نقش على جدار في موقع خربة الكرم، و هو موقع أثري قديم غرب مدينة الخليل الفلسطينية، و يعود تاريخه للألف الخامسة قبل الميلاد، و يقول النقش بوضوح : ” لتحل عليك بركة الإله يهوه و عشيرته ” و قد تم تأريخ النص للفترة ما بين العام 750 و 700 قبل الميلاد. (فراس السواح، تاريخ أورشليم ص 204).

– تم العثور في موقع تل حليف (جنوب الخليل) على بقايا معبد قديم دمره الجيش الآشوري خلال غزوه لأرض كنعان عام 701 قبل الميلاد و وجد داخل المعبد تمثال للآلهة عشيرة، و المعبد كان مخصصا لعبادة الاله “يهوه”. (عصام السخيني، فلسطين و الفلسطينيون، صفحة 62)

– كما عثر في منطقة كونتيلة عجرود‎‎ شمال شرق شبه جزيرة سيناء على إسم الاله “يهوه” و إلى جانبه إسم زوجته “عشيرة” منقوشا على جرار من الفخار تعود للقرن السابع قبل الميلاد في نصوص قصيرة بمثابة دعاء يقول : “لتحل عليك بركة يهوه إله السامرة و عشيرته” و في نص آخر :” لتحل عليك بركة يهوه إله تيمان و عشيرته” (فراس السواح، تاريخ أورشليم ص 204).

رسم لقطعة من جرة فخار وجدت بمنطقة كونتيلة عجرود بسيناء يبين تصورا للإله يهوه و زوجته عشيرة، القطعة موجودة حاليا بمتحف الأركيولوجيا بجامعة تل أبيب.
رسم لقطعة من جرة فخار وجدت بمنطقة كونتيلة عجرود بسيناء يبين تصورا للإله يهوه و زوجته عشيرة، القطعة موجودة حاليا بمتحف الأركيولوجيا بجامعة تل أبيب.

هاته الآثار الموثقة تؤكد أن قبائل يهوذا و السامرة قد عبدت آلهة متعددة لم تكن نتاجا فكريا و دينيا خالصا و خاصا بها، بل أخذت من البانثيون الأوغاريتي و الفينيقي و حتى المصري القديم في فترة معينة، فقد عثر على عدة تماثيل و منحوتات سواء في منطقة الجليل الأعلى أو النقب تمثل آلهة مختلفة عبدها سكان هذه المناطق منذ ما قبل 2000 سنة قبل الميلاد، و من بين هذه الآلهة نذكر بعل الكنعاني و أدونيس الفينيقي (أو ما يسميه الأحبار أدوناي أو السيد و هو تعبير يقصدون به يهوه الذي يحرمون ذكر إسمه حتى عند قراءة التوراة، باستثناء واحد خلال طقوس اليوم كيبور Yom Kippour أو عيد الغفران).

Déesse Asherah, trouvée dans la région de Ras Shamra Ugarit en Syrie, datée à l'an 1300 AD, sculpمنحوتة من العاج تصور زوجة الإله يهوه عشيرة، تم إكتشافها بمنطقة رأس شمرا - أوغاريت شمال سوريا، تم تأريخها للعام 1300 قبل الميلاد و توجد حاليا بمتحف اللوفر بباريس.
منحوتة من العاج تصور زوجة الإله يهوه عشيرة، تم إكتشافها بمنطقة رأس شمرا – أوغاريت شمال سوريا، تم تأريخها للعام 1300 قبل الميلاد و توجد حاليا بمتحف اللوفر بباريس.

التشابه بين بعل و يهوه : 

و لعل التشابه الكبير بين صفات الإله بعل الكنعاني و يهوه هي ما يؤكد هذه العلاقة بين الإثنين، فمن صفاتهما المطلقة القدرة على التحكم في الغيوم و السحب و إستخدامها كمركبة، بحيث نجد نصا في أحد أناشيد مناجاة الإله بعل يقول :

إني أقول لك أيها الأمير بعل، إني أكرر يا فارس الغيوم: هوذا عدوك يا بعل. هوذا عدوك سوف تقتله؛ ها أعداؤك سوف تفنيهم؛ ولسوف تفوز بالمُلْك إلى الأبد، وتبسط سيادتك على الكل دوماً

بينما نجد الآية 3 من السفر 104 من سفر المزامير في الجزء الثالث من العهد القديم المسمى بالكيتوفيم Ketuvim تصف “يهوه” بما يلي  : “الْمُسَقِّفُ عَلاَلِيَهُ بِالْمِيَاهِ. الْجَاعِلُ السَّحَابَ مَرْكَبَتَهُ، الْمَاشِي عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ“.

و في جانب آخر من التشابه بين بعل و يهوه، هناك الجلوس في مجمع الآلهة أو وسط الآلهة، فكما يجلس بعل في مجمع الآلهة العظيم بقيادة كبير الآلهة “إيل“، يجلس يهوه في مجمع الله وسط الآلهة، كما يصفه المزمور 82 من سفر المزامير قائلا : ” مزمور لآساف. الله قائم في مجمع الله. في وسط الآلهة يقضي، حتى متى تقضون جورا وترفعون وجوه الأشرار ؟ سلاه، اقضوا للذليل ولليتيم. أنصفوا المسكين والبائس نجوا المسكين والفقير. من يد الأشرار أنقذوا، لا يعلمون ولا يفهمون. في الظلمة يتمشون. تتزعزع كل أسس الأرض أنا قلت: إنكم آلهة وبنو العلي كلكم، لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون، قم يا الله دن الأرض، لأنك أنت تمتلك كل الأمم“.

 و كما يظهر من المزمور فهو لا يتحدث عن إله واحد يمسك بمصائر البشر و يحددها، بل يتحدث بصيغة الجمع عن آلهة متعددة تجلس في مجمع واحد، و يناجيها و يناشدها بأن تساعد الفقير والمسكين والبائس، و يؤكد هذا الجمع أو التعدد حين يقول “إنكم آلهة و بنو العلي كلكم“، و هذا في حد ذاته كناية عن مفهوم التعدد الواضح وسط نصوص العهد القديم نفسه، بما يؤكد كون الديانة اليهودية قد بدأت كجزء من المفاهيم الدينية المعاصرة لها تاريخيا، وهي في مجملها أديان وعقائد وثنية مبنية على تعدد الآلهة، و لم تكن تعرف معنى التوحيد قبل تفرد الإله يهوه كإله خاص بالقبائل اليهودية يرفض بقية الآلهة و يمنع أتباعه من عبادتها أو حتى الاعتراف بها.

ثم نرى بعد ذلك صفة أخرى يتشابه فيها الإله بعل بالإله يهوه، وهي شرب أو إدمان الخمر، بحيث تصف الألواح الأوغاريتية حب بعل للخمر قائلة :

يضع الكأس بيده ويرويه،
مغرفة بكلتا يديه،
دن من السماوات،
كأس مقدسة
ما رأت مثلها ساقية
وقعت عليها عين
ولا إلاهة.
ألف جرة خمر أخذ،
ومزجها مزجاً وسكب“.

بينما نجد الآية 8 من المزمور 75 تقول : ” لأَنَّ فِي يَدِ الرَّبِّ كَأْساً وَخَمْرُهَا مُخْتَمِرَةٌ. مَلآنَةٌ شَرَاباً مَمْزُوجاً. وَهُوَ يَسْكُبُ مِنْهَا. لَكِنْ عَكَرُهَا يَمَصُّهُ يَشْرَبُهُ كُلُّ أَشْرَارِ الأَرْضِ.

ثم نجد بعد ذلك الآية 65 من المزمور 78 تقول : “ فَاسْتَيْقَظَ الرَّبُّ كَنَائِمٍ كَجَبَّارٍ مُعَيِّطٍ مِنَ الْخَمْرِ. “

و التشابه عند هذه النقطة الأخيرة التي سوف أذكرها، يتجاوز إمكانية الصدفة، حين يظهر”بعل” في أناشيده و هو غاضب من عدم وجود بيت له مثل بقية الآلهة، فأرسلفي طلب الآلهة “عنات” لتطلب من رئيس مجمع الآلهة و كبيرها الإله “إيل” أن يبني له بيتا كبقية الآلهة الأخرى فيقول :

أريد بيتاً مثله لم تر السماء
قصراً مثله لم ير الناس
مسكناً مثله لم تر الجماهير”. 

بينما نجد سفر صموئيل الثاني يقول واصفا حديث يهوه إلى لداوود :

وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى نَاثَانَ:
«اِذْهَبْ وَقُلْ لِعَبْدِي دَاوُدَ هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: أَأَنْتَ تَبْنِي لِي بَيْتاً لِسُكْنَايَ؟
لأَنِّي لَمْ أَسْكُنْ فِي بَيْتٍ مُنْذُ يَوْمَ أَصْعَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، بَلْ كُنْتُ أَسِيرُ فِي خَيْمَةٍ وَفِي مَسْكَنٍ.
فِي كُلِّ مَا سِرْتُ مَعَ جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، هَلْ قُلْتُ لأَحَدِ قُضَاةِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَمَرْتُهُمْ أَنْ يَرْعُوا شَعْبِي إِسْرَائِيلَ: لِمَاذَا لَمْ تَبْنُوا لِي بَيْتاً مِنَ الأَرْزِ؟

تمثال من البرونز المطلي بالذهب يمثل الإله الكنعاني "إيل" جالسا فوق عرشه، تم العثور عليه بمنطقة تل مجيدو الواقعة حوالي 30 كيلومترا جنوب مدينة حيفا الإسرائيلية، و يوجد حاليا بمتحف القسم الشرقي بجامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية.
تمثال من البرونز المطلي بالذهب يمثل الإله الكنعاني “إيل” جالسا فوق عرشه، تم العثور عليه بمنطقة تل مجيدو الواقعة حوالي 30 كيلومترا جنوب مدينة حيفا الفلسطينية المحتلة، و يوجد حاليا بمتحف القسم الشرقي بجامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية.

كل هذا التشابه في الصفات ليس عبثيا و لا مصادفة، بل هو من صميم الأصل التاريخي لإله العهد القديم “يهوه”، و هذا يضعنا وسط مشهد عجيب نرى فيه يهوه و هو يأخذ لنفسه صفات الإله الكنعاني “بعل” واحدة تلو الأخرى، فالكنعانيون أنفسهم في أوغاريت قد عبدوا آلهة سموها ب “الشداي” و “العليون” أو “إيل“، بينما نجد كتبة التوراة أو العهد القديم لم يترددوا في أخذ هذه الأسماء و إسباغها على الإله “يهوه” ، و هذا في حد ذاته هو أصل عملية إنتحال الصفات بين آلهة كنعان و آلهة يهوذا و السامرة، فعندما ينتحل “يهوه” صفات “بعل” و “الشداي” و “العليون” و “إيل”فهو بذلك يلغي الحاجة لوجود هذه الآلهة من الأصل، و يتفرد بنفسه في الصفات الجامعة لكل الآلهة التي كان يقبل بها من قبل و يتعايش معها في البانثيون الكنعاني، و بالتالي فوجوده كإله واحد متفرد يلغي وجود بقية الآلهة الكنعانية التي أخذ كل صفاتها، و هنا بدأت قصة التوحيد و بدأت معها الديانة اليهودية.

في الجزء الثالث من هذا البحث، سوف نتابع بالتفصيل ذلك التماثل الكبير بين الآلهة الكنعانية في أوغاريت و طقوس عبادتها، و بين المفاهيم الدينية التي جاءت بها اليهودية.

مهدي بوعبيد

12/07/2017